عندما نتأمل واقعنا اليوم، ونسترجع ماضي أسلافنا بالأمس البعيد أو القريب، ونقوم بمقارنة بسيطة بين بعض أفعالهم، وأحلامنا، وإنجازاتهم، وإنجازاتنا مجازاً إن كان لنا إنجازات تستحق الذكر أو الخلود، وبين آثارهم، وما يمكن أن يتركه أجيال الحاضر من آثار، وكذلك عندما ندرك حجم الموارد والإمكانيات التي توفرت لهم، وتلك التي أتيحت لنا، ربما سيكون من المخجل أن نرى حجم البون الشاسع بين الاثنين، وسيكون من المعيب أن ندعي اليوم أننا حققنا شيئاً يستحق الذكر بالنظر إلى الظروف التي توفرت لنا، ولم تتوفر لهم، وبالنظر إلى الفرص التاريخية التي أهدرناها، ولم تتح لهم، وبالقياس إلى الفارق الكبير في كل شيء بينهم وبيننا. وحتى لا نطيل الحديث على القارئ، ولأن الموضوع أكبر من أن نحيط به بهذه التناولة، ويحتاج إلى بحوث ودراساتٍ مستفيضة، يمكن أن نستشهد ببعض الأمور، بغرض المقارنة بين ما أنجزه الأسلاف، وما حققه الأحفاد في أرض سبأ، أرض الجنتين، اليمن السعيدة، أرض الحضارات، ومهبط كثير من الأنبياء والديانات: - لقد شيدوا بإمكانياتهم الذاتية البسيطة أول السدود، ونحتوا بأدواتهم التقليدية الأحجار لبناء القلاع والمعابد أو تشييد الجسور في الجبال أو بين الصخور، واستخدموا الطين واللبَِنْ لتشييد ناطحات السحاب والمنازل والقصور، فأقاموا حضاراتٍ عريقة خلدها التاريخ، واكتفينا نحن بإمكانياتنا “الضخمة” أو بمعونات الأشقاء بإعادة بناء جزء يسير مما تهدم من آثارهم وسدودهم، وترميم جوانب مما تهشم من معابدهم وقصورهم وقلاعهم في الجبال والوديان والصحراء، ولم نبذل جهدنا حتى لمحاولة اكتشاف بعض آثارهم المطمورة تحت رمال الصحراء، وفي أحسن الأحوال قمنا بتحويل ما اكتشف منها إلى مزارات أو شواهد حية تدل على عراقة حضارتنا، أو بناء عدد من الحواجز المائية الصغيرة لجمع الماء. - ولقد سخروا قدرات الإنسان والحيوان في البناء والتشييد، وتحقيق كثير من المنجزات على هذه الأرض، فكانت “سعيدة” بهم، و“عظيمة” بتضافر جهودهم واتحادهم، ونحن ربطنا أحلامنا بزيادة الطاقة الانتاجية من آبار النفط، وزيادة أسعار الغاز المصدر، أو بزيادة هجرة الإنسان إلى بلاد الجوار طلباً للرزق أو “الإحسان”، أو لتشييد المنجزات العظيمة في أراضي “العالم”، أو الاعتماد على جود الخيرين من الأصدقاء والأشقاء، فغدت “شقية” بنا، وطالها وإنسانها مزيد من الإهمال والهوان. - ذكر القرآن الكريم أنهم امتلكوا جنات عن يمين وشمال؛ لأنهم زرعوا البساتين فحققوا اكتفاء ذاتياً من الموارد الزراعية والثروات الطبيعية، وحلمنا نحن بتحقيق الأمن الغذائي والاكتفاء الذاتي من الموارد الزراعية والثروات السمكية، فزادت كميات القمح والأغذية التي نستوردها من خارج الحدود، ولم نستفد من حواجز حفظ المياه، أو من مياه ما بنيناه من سدود، وغدت عبئاً على التنمية (بشهادة خبير مائي يمني)، ولم ننتفع من مواردنا الطبيعية من الأسماك والكائنات البحرية، التي صارت وليمة على موائد الأغنياء، وحلماً لكثير من الفقراء، ومصدراً للعملة الصعبة من وراء الحدود. - هم استفادوا من طاقة الشمس والقمر، واستخرجوا الزيوت النباتية والحيوانية والمواد الأولية، واستعملوها في توليد الطاقة “النظيفة” لإنارة القصور والمعابد والقلاع وتجمعات السكان، وحلمنا نحن بإنتاج الكهرباء من الطاقة “النووية”، ومنافسة اليابان وأمريكا وروسيا في هذا “الميدان”، فلا نحن نلنا نظافة “طاقة” الأمريكان، ولا نحن حافظنا على مستوى إنتاج الكهرباء بالطرق التقليدية (الغاز ، والديزل)، ولا سلمت محطاتها وأعمدتها من التخريب والتفجير والتدمير المتكرر من ثلاثي “شجعان الجدعان، وفرسان فرضة نهم، ومغاوير آل شبوان”. - مارسوا هم الشورى في مجالسهم، وعرفوا بعض الممارسات الديمقراطية في الحكم حتى قبل أن تعرفها بعض المجتمعات الغربية بقرون عديدة، وحلمنا نحن بإنتاج تجربة ديمقراطية رائدة في المنطقة وفريدة، ولكننا لم نمكنها من أسباب النجاح والاستمرار، وانقلبنا عليها جميعاً عند أول سانحة، لتصبح مجرد ذكرى “فقيدة”. الخلاصة، هم أحبوا وطنهم وأخلصوا في تشييده وتعميره، ونحن أحببنا أنفسنا وتسابقنا إلى تخريبه وتدميره، وهم تعاملوا مع واقعهم وعاشوا فيه وتعايشوا معه، ونحن عشنا مع أحلامنا وأوهامنا وارتبطنا بها، وتناسينا واقعنا ورفضنا قبوله ولم نسع لتغييره. وهم تكيفوا مع بيئتهم وتقلباتها وامتزجوا معها، ونحن أخفقنا في التعامل معها وفي التكيف مع متغيراتها وتطوراتها. وهم تكاملوا مع مواردهم وأحسنوا استثمارها، ونحن فرطنا فيها وتركناها نهباً لكل المغامرين والمهربين والطامعين. وهم كذلك، صمدوا في وجه كل عوادي الزمن وغوائله وصروفه وتحدياته، فطاوعتهم الطبيعة، وطُوِعَتْ لهم النباتات والحيوانات والصخور، وتآلفت معهم الجبال والوديان والثغور، فكانت حضارتهم وآثارهم شاهداً حياً وأبدياً على عظمتهم، وتعاملنا نحن مع وطننا وقضاياه ومشكلاته بمنطق الانتهازية والأنانية، والهروب، واللامبالاة، ونسجنا أحلامنا بسذاجة، وبنينا مشاريعنا ببلاهة، ..... فكان سقوطنا وإخفاقنا دليلاً حياً على ضعفنا وسبباً في “هواننا” بين الناس، (ومن يهن يسهل الهوان عليه)، فهل نستفيق من سباتنا الطويل، وننتبه من غفلتنا التي طالت، ونعيد الاعتبار لأنفسنا ووطننا؟ وهل نستعيد الثقة بقدرتنا على إعادة تشييد ما شيده الأسلاف؟ رابط المقال على الفيس بوك: http://www.facebook.com/photo.php?fbid=463648997007514&set=a.188622457843504.38279.100000872529833&type=1&theater