لقد تملكنا عشق الماضي والرغبة في العودة إليه والانغلاق والتقوقع فيه خاصة إذا كان -الماضي - زاخراً بالتراث والمآثر العظيمة، بينما حاضرنا لا يرتقي إلى المستوى المطلوب. لكن ندرك أن الحاضر ينبثق من أهمية فهم الماضي فهماً جيداً والتشبع بأفكاره؛ وقتذاك يتضح تأثيره في تشكيل الحاضر والانفتاح نحو العالم لمواكبة كل ما يحدث من تطورات مذهلة في مختلف المجالات والمستويات يعجز المرء عن استيعابها إلا بالعمل الدؤوب والجهد المتواصل. إن الغاية بين رحلة الأمس واليوم لن تكون أكثر من استحضار التاريخ البعيد في أذهاننا لانتفاضة الحاضر بما يفوق الماضي وتحرير شهادة له تُقدم كشاهد تاريخي تدل على عظمة الإنسان اليمني في كل العصور وتترك سنداً قوياً للأجيال القادمة لصنع المستقبل، فالرجوع إلى جوف الماضي وتجلياته واستنشاق عبيره والارتواء بكل جمالياته التي لاتزال إبداعاته منقوشة بالأنامل الماهرة على الجدران والأعمدة في المعابد والقصور والسدود والتماثيل والأواني المتنوعة من ذهب وفضة وفخار وفي الحصون والقلاع حيث تقف شامخة في أعالي الجبال كأساطير تجعلنا نتوقف ونسأل بدهشة: كيف تمكن الإنسان اليمني القديم من التغلب على وعُورة الحياة وأن يصنع له مكانة بين الحضارات القديمة؟!. فكل تلك الشواهد التاريخية باتت اليوم تعيش في كل زوايا الفؤاد نحتمي إليها كلما جار الحاضر علينا، نشعر إلى جوارها بالدفء والأمان، وستبقى دائماً تمنحنا فرصة البقاء وتجبر الحاضر أن يكون امتداداً لأصالة وعراقة الماضي، وتدعو أبناءه للمضي قدماً في تحقيق أهدافهم وطموحاتهم والتحلي بالثقة وروح المسؤولية والشعور بالرسالة الملقاة على عاتقهم والسعي بأن تتوفر لديهم القدرات العالية والمعرفة الواسعة التي تؤهلهم للإنجاز والمشاركة بفاعلية في الحاضر لنكون على موعد مع التغيير في الحياة القادمة. أحياناً كثير من أحاديث الشباب تبعث على الأسى والألم بما تحمله من يأس وإحباط للعزائم وكذلك اتكالهم وتقاعسهم واستسلامهم لواقع الحال وعدم القدرة على خلق الفرص الممكنة وضعف روح المبادرة وعدم المساهمة في نهضة وبناء هذه الأرض، مكتفين بالمفاخرة بأمجاد الماضي والانتساب القبلي. وبسبب عدم الفهم الواعي للماضي أدى إلى ردة فعل انفعالية ضد حضارة اليوم والإدمان على الماضي والذوبان به وتناسوا أن التاريخ القديم ليس هبة من الله، ولم يولد الإنسان القديم وفي فمه ملعقة من الذهب، حيث تكمن عظمة ذلك الإنسان في قوة تفكيره وقدرته على تحمل المعاناة والتضحية وبناء حضارة نفتخر اليوم بالانتماء إليها، فقد نجح في صناعة تاريخه وتسطيره بماء الذهب، فزرع وشيّد وأنشأ ونظم وحاول لمّ الشمل وسار وفق منظومة من القيم والمبادئ أوصلته إلى مراتب الخالدين. ما يحزّ في النفس كثيراً هو ما وصلنا إليه من حالة التشاؤم وعدم المقدرة على مصارعة الحياة، حقاً لا نستطيع أن نحقق كل ما نصبو إليه من رقي وحضارة وبيننا من توقفت حياته عند تأدية عمل روتيني يومي والجلوس خلف المكاتب واستلام راتب آخر الشهر دون تطوير ولا إبداع ولا طموح. صرنا منهكين لا نرغب في البحث عن أفكار جديدة ويصعب تقبل التغيير؛ لأنه ينطوي على تغيير في نمط ألفناه، ورتابة عهدناها، لنقف مجدداً ونسأل أنفسنا: ماذا امتلك الإنسان اليمني القديم لشق الجبال وتشييد الحصون والقلاع وإقامة المدرجات الزراعية والسيطرة على الطبيعة وتطويع الحجار وإيجاد لنفسه موطئ قدم في التاريخ الإنساني ونحن اليوم عجزنا عن اللحاق بركب الحضارة؟!. [email protected]