لايجب أن يمر حدث بحجم حدث الهجرة النبوية دون الالتفات له والوقوف عنده لاستلهام الدروس والعبر منه في مسيرة الأمة الطويل؛ ذلك أنه كان بمثابة إيذان شديد الوضوح ببداية التحول الكبير في مسيرة الجماعة المؤمنة في مكة التي لاقت أصنافاً من القهر وأصنافاً من الإيذاء والمطاردة والتضييق حتى لقد حوصرت في شعب أبي طالب سنين ثلاثاً بدون أدنى مقومات الحياة تماماً كما تحاصر غزة الحلقة الأضعف في خاصرة الأمة اليوم. لقد فتحت الهجرة للنبي الكريم صلى الله عليه وسلم وأصحابه نافذة جديدة إلى النور وهم يغذون الخطى في الطريق الشاق لتبليغ رسالة ربهم إلى الناس. أجل كان حدث الهجرة أعظم حدث في مسيرة الصراع بين الحق والباطل أو الكفر والإيمان، كان على الجماعة المؤمنة أن تسلكه قبل بناء الدولة بأسسها الحديثة القائمة على الحرية والعدل والمساواة الاجتماعية. إن أول درس على الأمة أن تتعلمه اليوم من هذا الحدث هو أن عليها أن تأخذ بالأسباب لتحقيق غاياتها القريبة والبعيدة، لقد بذل الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وصاحبه أبو بكر الصديق كل ما في وسعهما من أسباب وخطط لنجاح الهجرة والفرار بالدين في حين كان بمقدور النبي عليه السلام أن يدعو ربه طالبا النصر على قريش في مكة؛ ولكنه أراد أن يعلمنا أن عدم الأخذ بالأسباب بعد التوكل على الله هو اتكال يجب على الأمة مغادرته والممعن النظر في الخطة يجد أنها كانت يكتنفها بعض القصور فالعدو تمكن أخيرا من الوصول إلى بيت الرسول عليه الصلاة والسلام ولولا أن الله كان قد ضرب عليهم النوم إذن لكانوا وصلوا لمبتغاهم، كما أنهم كانوا قد وصلوا إلى الغار الذي يختبئ فيه النبي الكريم وصاحبه، وتمكن سراقة من متابعتهما وكاد يلحق بهما لولا أن أقدام فرسه ساخت في الأرض وذلك يؤكد أن صاحب الخطة قد لايستطيع التحري في كل شيء وأن عليه ما يستطيعه كما أن على الأمة أن تثق بنصر الله ووعده ولا تركن على الأسباب وحدها “ما ظنك باثنين الله ثالثهما“ قالها الرسول عليه السلام لأبي بكر ولكن هذه الكلمة لها القدرة على اختراق الزمان والمكان لتكون موجهاً عاماً وعنواناً بارزاً في مسيرة الأمة. درس آخر على الأمة أن تستفيد منه هو التضحية ها هو محمد صلى الله عليه وسلم يترك مكةمسقط رأٍسه مع شدة تعلقه بها وحرصه الشديد عليها.. لقد خرج منها مكرهاً وقلبه يذوب كمداً لها وهو يرسلها حارة حرارة قلبه الملتاع: “أما إنك لأحب البلاد إليّ لولا أني أُخرجت منك“ ولكن الفرار بدينه ومبادئه أهم من كل ذلك. كان بإمكانه التخلي عن دعوته ومبادئه لصالح الجاه أو المنصب مثلاً ولكنه كان صاحب هدف نبيل وكبير تتقاصر عنه أفكار القوم وأصحاب الأهداف القريبة والقصيرة أولئك الذين لايرون أبعد من أقدامهم؛ فيسيل لعابهم على منصب صغير في مقابل التخلي عن المبدأ وما أكثرهم في هذا الزمن! إن أهم ما يميز المبادئ أنها مقدسة لايجوز المساس بها، وإلا يغدو المرء عند التخلي عنها عبداً للمنصب أو المال، وفي سياق التضحية هذا يبذل أبو بكر الصديق جهده ووقته وماله بسخاء شديد ينفق خمسة آلاف درهم وقبلها خمسة وثلاثين ألف درهم في سبيل الله وسيظل ينفق وهو في المدينة وسينفق وهو خليفة وحتى وهو على فراش الموت، ليس ذلك فحسب، بل وسخر كل عائلته في خدمة الدعوة وتجلى ذلك بشكل واضح في هذا الحدث (الهجرة) ها هو عبدالله ابنه وكان طفلاً ثقفاً لقناً ينقل الأخبار وأسماء ابنته تنقل الطعام والشراب ومولاه عامر بن فهيرة يخفي آثار الأقدام؛ لذا لاغرابة أن يستحق أبو بكر الصديق وسام “ وسيجنبها الأتقى“ كان رضي الله عنه يدرك معنى قول صاحبه ورفيق دربه نبينا محمد صلى الله عليه وسلم: “كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته“ الثقة بنصر الله وتحقيق وعده درس آخر يجب على الأمة أن تستوعبه في هذه الرحلة الخطيرة فمحمد عليه الصلاة والسلام وهو يخرج من مكة ورأسه مطلوب نراه يبشر سراقة بن مالك ليس بظهور الإسلام على قريش أو على العرب؛ بل يبشره بظهور الإسلام على فارس، بسقوط عرش كسرى تحت أقدام الفاتحين المسلمين “كأني بك ياسراقة تلبس سواري كسرى” وهذا ماتحقق بالفعل. كشف لنا حدث الهجرة كيف أن القائد يعيش آلام شعبه وينال نصيباً من الوجع ها هو يهاجر معهم ويُطارَد معهم، يتعب كتعبهم وزيادة ولوشاء ألفاه الوقت لدعاء ربه وجلس مرتاح البال قرير العين في برج عاجي؛ ولكنه أراد أن يعلم الأمة أن القائد يجب عليه أن يكون جزءاً من المقودين، يجب عليه أن يكون قدوة وأسوة لمن يقود .. كثيرة هي دروس وعبر الهجرة لا يمكن لمثل هذه المقالة العجلى أن تحيط بها ويكفي منها أنه مع اشتداد الظلمة والمعاناة ينبلج الفجر ويتحقق النصر؛ لذا رأيناه عليه الصلاة والسلام في المدينة وهو يبني المجتمع الجديد ويعقد الاتفاقيات والعهود كقوة ضاربة معترف بها، ولايمكن تجاوزها . رابط المقال على الفيس بوك: http://www.facebook.com/photo.php?fbid=465966963442384&set=a.188622457843504.38279.100000872529833&type=1&theater