مع اندلاع ثورات الربيع العربي وقف بعض الإسلاميين في انتظار ساعة الحسم حتى تبدأ مرحلة جديدة في المطالبة بتطبيق كامل للشريعة الإسلامية، وبشكل فوري وحاسم، مع أن هذه المطالب وإن كانت مشروعة كون الفلسفة الديمقراطية تضمن لهم الحق في المطالبة بما يريدون، إلا أنها تدل على غياب الوعي بالشريعة والسياسية والواقع أيضا. فالمسافة كبيرة والفرق واضح بين التطبيق الكامل للشريعة والتطبيق الممكن لها، ونتيجة لغياب هذه المسافة لدى بعض الإسلاميين أو المهتمين بالإصلاح الديني قد يصلون أحيانا إلى اليأس والإحباط، أو إلى تجاوز السنن الكونية وعدم مراعاة عامل الزمن، مع أن هذه المسافة لم تكن غائبة عن أحداث ومجريات السنة النبوية، ولم تغب أيضا عن سير وأنشطة المصلحين والعظماء على مر التاريخ. وكوننا نعيش في مجتمعات متداخلة تعصف بها ظروف سياسية واجتماعية، فإن ذلك يفرض علينا جميعا التفريق بين التطبيق الكامل للشريعة والتطبيق الممكن لها، وعدم تخطي الحلول الممكنة إلى غير الممكنة وفق سنة التدرج النبوية. فهم الواقع نصف الفتوى التطبيق الكامل هو تنزيل جميع نصوص الشريعة على الواقع، سواء انسجم مع الواقع أو تعارض معه، بينما التطبيق الممكن هو تنزيل مفهوم النص بما يلائم الواقع ويصلحه، وقد يقتضي ذلك التخلي عن بعض مفاهيم النص من أجل تحقيق أعلى المصلحتين ودرء أعلى المفسدتين، وهو ما يطلق عليه العلماء بتحقيق المناط. لأن الحكم على الشيء فرع من تصوره، وفهم الواقع كما يقول البعض نصف الفتوى. وابن تيمية في الفتاوى أشار إلى هذه المسافة بين التطبيق الكامل والتطبيق الممكن وفق ظروف الزمان والمكان، حين قال (يجب على كل ولي أمر أن يستعين بأهل الصدق والعدل، وإذا تعذر ذلك استعان بالأمثل فالأمثل وإن كان فيه كذب وظلم، فإن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر وبأقوام لا خلاق لهم، والواجب إنما هو فعل المقدور، والغالب أنه لا يوجد كامل فيفعل خير الخيرين ويدفع شر الشرين .. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يفرحون بانتصار الروم والنصارى على المجوس وكلاهما كافر، لأن أحد الصنفين أقرب إلى الإسلام، وكذلك يوسف كان نائبا لفرعون مصر وهو _ أي فرعون _ وقومه مشركون، وفعل يوسف من العدل والخير ما قدر عليه ودعاهم إلى الإيمان بحسب الإمكان. إن نجاح أي دعوة إسلامية مرهون بإدراك كامل لهذه المسافة الفاصلة بين (الكمال والإمكان، أو النص والواقع)، والقرآن الكريم أكد على هذه المسافة عندما حرم الخمر، فلم يحرمه دفعة واحدة، مع أنه رجس منذ اللحظة الأولى، وكذلك الربا، والزكاة أيضا لم تفرض منذ البداية. وهذا ما لاحظته السيدة عائشة رضي الله عنها عندما قالت (إن أول ما نزل منه _ أي القرآن الكريم _ سورة من المفصل فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام، ولو نزل أول شيء لا تشربوا الخمر لقالوا: لا ندع الخمر أبدا، ولو نزل لا تزنوا: لقالوا لا ندع الزنا أبداً). يقول ابن تيمية: مررت أنا وبعض أصحابي في زمن التتار بقوم منهم يشربون الخمر، فأنكر عليهم من كان معي، فأنكرت عليه، قلت له: إنما حرم الله الخمر لأنها تصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وهؤلاء يصدهم الخمر عن قتل النفوس وسبي الذرية وأخذ الأموال فدعهم. وعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه قال: “لولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية لأمرت بالبيت فهدم، فأدخلت فيه ما أخرج منه، وألزقته بالأرض، وجعلت له بابين، بابا شرقيا وبابا غربيا، فبلغت به أساس إبراهيم. فالنص شيء وتطبيق النص شيء آخر، كما أن الشريعة شيء وتطبيقها شيء آخر. وهذه فكرة جوهرية تحتاج إلى تأمل ومناقشة.. ففهم واقع الأفراد والشعوب النفسي والفكري، وقدر ما يتحملون من الشرع، وما يصلحهم ويصلح لهم؛ هو فقه دقيق تختلف فيه الأنظار، ويتفاوت في دركه النظّار. كما يقول الدكتور سلمان العودة. الشريعة بمقاصدها من نافلة القول التأكيد على أن الإسلام جاء لمعالجة الشر في المجتمع، واجتثاث الأباطيل والترهات في عقول الناس، وعمل على بناء صرح الخير والكمال، بما حواه من قيم ومبادئ الصلاح والإصلاح، وبما ترسمه من سنن التدرج في معالجة القضايا، فبدأ بالأصول قبل الفروع، والأهم قبل المهم، ومهد لاقتلاع الكثير من المفاسد بكثير من المناسبات والملابسات، اعترافا بأن الفساد لا يتغير طفرة، ونهوض الأمة من كبوتها لا تتم بحقنة طبيب أو برقية راق، لذلك امتدت فترة نزول الوحي ثلاثاً وعشرين سنة، أخذت باعتبارها كل التحديات والعوائق والعقبات، ووضعت في حسبانها كل الملابسات. فالسياسة الشرعية والتي تقوم على فهم الزمان، والمكان، والإنسان، والحدث، والنص، تقتضي تقديم الأصول العظيمة على غيرها، والأهم قبل المهم، ولو ترتب على ذلك تفويت بعض الجزئيات والتفصيلات. ووفقا لحسن حنفي والجابري في حوار المشرق والمغرب، إن المبادئ العامة للشريعة الإسلامية هي الثابتة، وهي الحفاظ على مقاصد الشريعة، أما الفقه فمتغير بتغير الحاجات والمصالح. وإذا كان القدماء قد استنبطوا فقها استجابة لظروفهم، فإن باستطاعتنا إبداع فقه تلبية لحاجاتنا، وطبقاً لظروفنا، وتحقيقاً لمصالحنا المتغيرة جيلاً عن جيل، فهم رجال ونحن رجال، نتعلم منهم ولا نقتدي بهم. وقال صلى الله عليه وسلم “إن هذا الدين متين، فأوغلوا فيه برفق”. قال الغزالي: أراد بهذا الحديث أن لا يكلف نفسه في أعماله الدينية ما يخالف العادة، بل يكون بتلطف وتدرج، فلا ينتقل دفعة واحدة إلى الطرف الأقصى من التبتل. فإن الطبع نفور، ولا يمكن نقله عن أخلاقه الرديئة إلا شيئا فشيئا، حتى تفصم تلك الصفات المذمومة الراسخة فيه. ومن لم يراع التدريج وتوغل دفعة واحدة، ترقى إلى حالة تشق عليه، فتنعكس أموره، فيصير ما كان محبوبا عنده ممقوتا، وما كان مكروها عنده مشربا هنيئا لا ينفر عنه، وهذا لا يعرف إلا بالتجربة والذوق. اجترار التاريخ لقد كان لفقهاء المسلمين في عصورهم المختلفة قراءتهم للنص الشرعي، وكانوا في كل عصر يحاولون المواءمة بين فقه النص وفقه الواقع، فيما يعرف اصطلاحاً باسم (الاجتهاد)؛ ثم جاءت عصور جمد المسلمون فيها على بعض الآراء دون مراعاة تغير الزمان والمكان، حتى حصلت فجوة كبيرة بين الرؤية الشرعية الاجتهادية وواقع الحياة، فتخلفت الأولى عن مواكبة مستجدات الحياة، وبدا الفقه الإسلامي في بعض حالاته كزي قديم يُلبس في غير عصره، أو كمنافس في مضمار غير مضماره. ولم يكن ذلك القصور بسبب الانفصام بين الرؤية الفقهية والحياة الواقعية فقط، بل أيضا بسبب تجاوز كثير من حكام المسلمين منذ قرون متطاولة حدودهم، حيث حولوا الدولة الإسلامية إلى ملك عضوض، وأهدروا كثيراً من القيم والأساسيات الشرعية، فتطورت الحياة الرسمية (السياسية) في العالم الإسلامي بعيدة نسبياً عن روح الإسلام وشريعته، في مرتكزاتها العامة القائمة على الشورى والعدل.. واليوم ونحن نستشعر الحاجة الملحة لردم الهوة بين رؤيتنا الفقهية وواقع حياتنا في أطرها المختلفة، تبدو الأمة مطالبة بمباشرة نهضة تجديدية، تقوم على أسس منهجية شرعية قويمة، تعيد تنظيم العلائق بتطوير ما يتطلب الواقع تطويره، تحت قوس النص الشرعي، وفي إطار بحبوحته التي تفيض رحمة ويسراً. وعلى المؤسسات الإصلاحية مواصلة تجربتها الإحيائية والتجديدية، فهي بحق التجربة التي التأم فيها شمل مبدأ الشورى، الذي ظل ممزقاً بين استغلال السلطة السياسية واستغفال السلطة العلمية، فعند الحاكم غابت الدراية بمقاصدها ومراميها، وعند العالم ظلت بعيدة عن ظروفها وشروط تنزيلها. إن حركة الزمان لا ترحم الواقفين الجامدين, ولا تنتظر المترددين الخائفين, الذين يعيشون عصرا بوسائل عصور خلت, ولا يميزون بين المبدأ الخالد والوسيلة الفانية، فكل توقف يتحول إلى تخلف. عدم ادارك هذه المسافة الفاصلة بين النص والواقع أو التطبيق الكامل للشريعة والتطبيق الممكن لها، جعل البعض بعيش في المثاليات، ولم يعد بمقدوره رؤية الواقع بظروفه المختلفة، فوقع في إحدى المشكلتين: إما القنوط والإحباط واليأس، ومن ثم اعتزال الناس والعيش في عالم الأحلام، وإما تجاوز السنن الكونية والشرعية وتخطى عامل الزمن، ومن ثم جلب له ولجماعته أو حركته أو حزبه الويلات والمصائب والتي قد لا تنتهي إلا بانتهاء أجله المحتوم. رابط المقال على الفيس بوك: http://www.facebook.com/photo.php?fbid=467939806578433&set=a.188622457843504.38279.100000872529833&type=1&theater