الانتفاضة والثورة تأتي في لحظة غضبٍ عارم تجتاح الجماهير,أما ما بعدها فيتطلب الهدوء وضبط النفس والتروِّي والكثير الكثير من التخطيط المدروس والجهد والبذل اللذين يحتاجان لرباطة جأش, ولن يقدر عليها سوى من تغلغلت الأفكار الثورية في أعماقه وكأنها جزءٌ من حياته وحلمه الذي يجب أن يحقّقه. أقول إن الوقت قد حان لنكون نحن الأقدر على فهم واقعنا أكثر مما مضى , نخطو نحو الأمام متجاوزين أخطاء الماضي ومستفيدين من تجاربه ,نصنع لوطننا مستقبلاً يليق به وبتاريخه المشرق, مستغلّين هذا المنعطف التاريخي في وضع استراتيجياتٍ جديدة تثبت وجودنا في العالم وتؤثر فيه بقدر ما تتأثّر به. برأيي إن الثورة الحقيقية لم تبدأ بعد ...حتى نراها تقوم لأجل الالتفاف حول أهدافنا الكبرى ,فالهدم سهل,ولكن البناء هو الأصعب... فالوحدة والحرية والتنمية ثلاثة أعمدة تحتاج إلى فكرٍ متيقّظ وعقلٍ مدبّر وسياسةٍ حرّة ومجتمعٍ مستنير حيث يصهر المجتمع أهدافه وطموحه في بوتقة أهداف الثورة ,وهذا العمل لا يقلُّ شأناً عن إشعال لهيب الثورة بدم الشهداء ,بل هو الشرف الذي نسعى للوصول إليه فداءاً لتراب الوطن ورفعته ونهوضه من جديد ,فمرحلة العمل للبناء هي الثورة الحقيقية التي نسعى لإلهابها في قلوب المواطنين. يقول جيفارا الذي أصبح رمزاً للإنسان الثائر....(إذا لم يُعن بتغيير الإنسان فالثورة لا تعني شيئا بالنسبة لي). فعندما رحل الاستعمار ترك خلفه ما هو أخطر منه ,استعمارٌ مقنّع يمارسه أبناء الوطن ,حين يسرقُ الابن والدته ويعقّها, فماذا يمكننا ان نسمي ذلك. وحين يتواطأ مع أعدائها موغلاً في عقوقها والسطو على ممتلكاتها. حين يتسلّط على إخوانه باسم مصلحة والدته ,.ويُذيقهم جبروته وظلمه وأخذه لأموالهم بلا وجه حق , حتى لا يتداول معهم الحق في خدمة والدتهم ,بل كثيراً ما يرغمهم على خيانتها دون أن يشعروا. (إنه استعمارٌ جديد له نصيبٌ من الذكاء) كما قال الفيلسوف الجزائري مالك بن نبي , بل والكثير من الدهاء. واليوم وبعد حدوث الثورات العربية على ثلّة من هؤلاء العاقين ,صار على المجتمعات واجب التغيير ,تغيير تلك الأنفس التي خضعت لزمنٍ طويل تحت أقدام أولئك العاقين ,هذا الخضوع الذي أصاب العقول بلوثة الاتّكالية والخمول واللامبالاة وضعف الشعور بالمسؤولية والانهزامية و استعجال الثمرات ,هذه العقول تحتاج إلى إعادة تهيئة أو فورمات حتى لا تلعب دور المثبِّط بين صفوف المواطنين المتحمِّسين لبناء المستقبل ,وحتى تتمكن الثورة من القيام بدورها الفاعل في مرحلة ما بعد الثورة مرحلة البناء والتجديد, وليتمكّن أبناء المجتمع من أخذ حقوقهم والقيام بدورهم في خدمة الوطن. إن التخلّص من ما أسميه القابلية للخضوع لهو في غاية الأهمية في هذه المرحلة حتى نضمن نجاح الثورات وتحقيقها لكافة أهدافها وإقامتها لدولة مدنية ديمقراطية حديثة تراعي العدالة في توزيع الثروة والتداول السلمي للسلطة عن طريق صناديق الاقتراع بكل صدق ونزاهة. فقد تنجح الثورات ولكن قد يغيِّر مجراها ويستبدّ بالأوضاع جماعة أو حزب آخر لا يغيِّر شيئاً في المجتمع ,بل يعود ليمارس ذات الأفعال التي مارسها من سبقوه,ويساعده في ذلك حالة (القابلية للخضوع)... في الظل البعض يتقن حمل الماضي على أكتافه ,فيؤاكله ويشاربه ,حتى يدخله في أنفاقٍ ودهاليز مظلمة توصله إلى قبره ,قبل أن يرى النور. [email protected]