تحدثنا في المقال السابق عن نقل العادة كمشكلة فكرية تعيق عملية التفكير المنطقي والديني السليم والإبداع في الحياة ,ما يجعل مجتمعاتنا رهينة الماضي والعيش في زمن غير زمنها ..واليوم سنتحدث عن الميل للمجاراة .. كان طالباً مجتهداً وموهوباً,سألته بعد أن حصل على شهادة الثانوية : إلى أيِّ قسمٍ ستتوجّه يا صاح؟ فقال بدون أيِّ تردّد : لا أدري ,ولكن بالتأكيد حيث يتوجّه أصدقائي في ذات الدفعة . قلت له : أعني أيّ قسمٍ ستدخل وفي أيِّ تخصّص ستسلك! فقال: لقد أخبرتك حيث يذهب الجميع . فعدت وسألته: وماذا لو لم يناسبك القسم ؟ فأجاب: لا يهم ف(الموت مع الجماعة رحمة ) هذا الحوار القصير يمثِّل حال أكثرنا حين تغيب الرؤيا ونفتقد الرسالة تصبح حياتنا رهينةً في يد الآخرين يوجِّهونها حيث يشاؤون ,(ومع الخيل يا شقرا) نتوه مع التائهين ونهتدي مع المهتدين ,دون أدنى محاولةٍ للتفكير خارج السياق الذي يفكر فيه المجموع ,ليغيب الإبداع وتغيب الحلول الناجحة وتغيب التعددية الفكرية في ظلِّ الانسياق خلف الآخرين ..ببساطة لأن الموت مع الجماعة رحمة..وأن ما سيصيبهم سيصيبني فما أنا إلا واحد منهم حتى يغدو الجميع نسخةً مكرَّرة من بعضهم البعض ,فتموت روح التنافس التي بها ينمو الفكر وتتحرّك المجتمعات نحو الأفضل ,ويغيب التنوّع الذي يثري الحياة في جو من التعاون البنّاء .. ولماذا أفترض أنه يجب أن أموت ؟ ولماذا لا أحيا ,وأحاول إنقاذ الجميع أو البعض أو حتى أنجو وحدي ؟ ألا يوجد طريقة تمكّنني من النجاة أو التميّز؟ غريبٌ أمرنا حين نحبس ذواتنا ونحاصرها بيد الجماعة أو الجماهير,التي قد تكون مغيّبة أو لا تمتلك حلولاً صائبة ,ألا يمكن أن يتمكّن فرد واحد أو اثنان من اكتشاف مكامن الخطأ ومحاولة تعديل المسار فليس ما يفعله الجميع يكون صواباً دائماً خصوصاً في مجتمعات تظهر فيها أعراض التخلّف والضمور. وهناك مشكلة اجتماعية وثقافية أعمق تقف خلف كل ذلك وهي أن المجتمع يفرض قيوداً على من يحاول الخروج عن طريقة الجميع كعقاب,فينبذه ويعدّه من المجانين ,ولكن حين يرى نجاح طريقته تراهم يركضون لتقليده ومجاراته ليعودوا ويكرّروا ذات الخطأ مرةّ أخرى ,نتيجة عدم استقلالهم الفكري وافتقادهم القدرة على إنتاج الأفكار الجديدة والمختلفة التي تناسب واقعهم ..فالاختلاف بالنسبة لهم جريمة والتجديد والتغيير إثمٌ لا يُغتفر. رُويَ من حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لَا تَكُونُوا إِمَّعَةً ، تَقُولُونَ : إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَحْسَنَّا ، وَإِنْ ظَلَمُوا ظَلَمْنَا ، وَلَكِنْ وَطِّنُوا أَنْفُسَكُمْ ، إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَنْ تُحْسِنُوا ، وَإِنْ أَسَاءُوا فَلَا تَظْلِمُوا) رواه الترمذي. حتى ديننا الحنيف يمنعنا من مثل هذه الطريقة في التفكير التي تجرّنا نحو المهالك ,وتوقف العقل عن التفكير الإيجابي كإمّعة يتّبِع الآخرين دون أن يُراعي واقعه الخاص ومصالحه العامة والخاصة و(كل نفس بما كسبت رهينة) ولن يؤاخذ سبحانه الواحد بإثم الجماعة ,خاصةً إذا برِئ منهم بالنصيحة والتنبيه للخطأ الذي يمارسونه . هذا الاستسلام لصراخ الجموع والغرق في أمواجه سيمضي بالجميع نحو القاع ,بينما العقول مستكينة خاملة لا تعبِّر عن روح المسؤولية الذاتية أو الاجتماعية ,فقد يكون صوت واحد سبباً في إنقاذ الجموع النائمة وإيقاظها من غفلتها لتغيير المسار والوجهة لما هو أفضل وأحسن ..أو إنقاذ واحد منهم على الأقل. في الظل.. العقول المحلِّقة لا تقبل التحليق في سربٍ لا تعرف وِجهته ,بل تبحث لها عن فضاءٍ يحقّق ما تصبو إليه. [email protected]