كنت أتساءل وأحاول التفكير في جانبٍ هام من حياتنا كمسلمين ,جانبٌ يستعمله الكثيرون كأسلوبٍ لاستمالة القلوب وتليين العقول ,وهو أسلوبٌ عرفه الإنسان من خلال معرفته الدينية وحسِّه النفسي ,فقد خاطبت الكتب السماوية الناس به في بعض أجزائها لتحريك نداء الفطرة والتحليق بالروح نحو خالقها بل إن إنزال الكتب السماوية أصلاً يعدّ تحقيقاً لهذا الأسلوب وشكلاً من أشكاله إلى جانب أساليب أخرى تحاكي العقل والجسد ,ولم يكن القرآن الكريم وهو كلام الله مختلفاً عن بقية الكتب السماوية السابقة فكان استعمال الأسلوب الوعظي منتشراً ومتفرقاً بين سطوره ,وما ألذ الوعظ وأعذبه حين يكون من كلام الخالق الرحيم الذي هو أعلم بحالنا ومآلنا...يقول تعالى: (هذا بيانٌ للناس وهدىً وموعظة للمتقين). وفي مقالي هذا سأتناول الوعظ من ناحية النصح الديني كالترغيب في الثواب الأخروي والترهيب من عذاب النار من خلال الدعوة إلى الإكثار من القيام بالأعمال الصالحة التعبدية منها خاصة كأداء النوافل من صلاة وصدقة وذكر. نحتاج العودة إلى الدين ,ولكن الواعظ اليوم كثيراً ما يقع في خطأٍ فادح –دون قصد أو بقصد-فيردد على أسماع الناس والبسطاء منهم خاصة ,أن يكفوا عن الذنوب ليظل الشعور بالذنب يطاردهم وقيود الإثم تحاصرهم فيخافون الحركة ويرهبون التزحزح عن أماكنهم مخافة الوقوع في الذنب فلا يتطورون ولا يتغيرون , وكأنه يطلب منهم العيش كملائكة ..والملائكة لا يفعلون شيئا سوى التعبد لله دون اختيارٍ أو إرادة فهم لا يخطئون يحيون بطريقة واحدة لأنهم أصحاب علم محدود وليس لديهم القدرة على النظر إلى ماهو أبعد مما عرفوه من رب العزة والجلال مباشرة ,فلا أرض تستفزّ فيهم حب الحياة والاستمرار ولا أخطاء ترشدهم إلى طريق الصواب ,أوليست بالأضداد تعرف الأشياء فلولا السواد ما عرف البياض..لذلك لم نكن ملائكة. ونحن خلقنا أيضا لعبادته سبحانه وترك لنا حرية الإختيار والإرادة وعلّمنا (الأسماء كلها )ومنحنا العقل لنعقل ونتعلم ونكتشف ونعرف لتتسع الدائرة وتتشعب فنصيب ونخطئ في امتحان عمارة الأرض وإصلاحها أو تدميرها وإفسادها ,فنميط الأذى عن الطريق ونغرس شتلة ونصلي ونصوم ونخطئ ونستغفر ونصيب ونشكر ,ونخالط طينة الأرض ونتلذذ بنعيمها ضمن نظام إلهي لا يقطع صلتنا بالخالق ولا يحرمنا من الأرض فنأخذ من الدنيا ما تيسر وتظل الآخرة نصب أعيننا.. وعلى النقيض من ذلك كنا بحاجة للوعظ والنصيحة والتذكير حتى لا ننسى ما بيننا وبين الله من عهد فتلهينا الماديات وتشغلنا الشهوات والغرائز وحب الذات والتركيز على الأرض والتعامل مع طينتها واستغلالها وبنائها عن ما وراء ذلك من حكم ربانية ,فنتحول إلى ترسٍ في آلة ليموت الجانب الروحاني الممتد في قلوبنا وتصبح حياتنا محصورةً في الدنيا الفانية غافلةً عن الحياة السرمدية. نعم نحن بحاجة للموعظة الحسنة ولكن باتزانٍ وبجرعات محدودة ومدروسة ,وهذا ديدن رسول الله –صلى الله عليه وسلم-فقد اكتشف أحد الباحثين أن خطبه وبحسابٍ بسيط لا تزيد عن التسع دقائق بل إن خطبة حادثة الإفك التي هزّت رسول الله لم تتجاوز سبعمائة كلمة أي ما يعادل خمس تغريدات في تويتر ,لذلك وجب على الواعظ أن يُوجز في موعظته حتى لا يتسرب الملل والسأم للمستمعين ,ومن ناحيةٍ أخرى لو نلاحظ في سورة الجمعة وهو اليوم الذي فُرضت فيه الخطبة على المسلمين كيومٍ واحد في الأسبوع وليس أكثر إلزاماً لهم بحضورها وتعريفهم بأهمية ودور الموعظة والتذكير في حياتهم الدينية والدنيوية ,نجده تعالى في هذه السورة ينهي عن البيع والشراء في ذلك الوقت احتراماً للموعظة وتأكيداً على أهميتها ,ولكنه لم يمنع من ممارسة البيع والشراء في بقية الصلوات ولكنه نهى عنها وقت صلاة الجمعة فقط ,ليعلمنا أن الحياة تحتاج منا الكثير لنمائها وبنائها بينما الموعظة فنحتاج منها بالقدر الذي يجعلنا على صلة بالخالق ما ينعكس على حياتنا العملية ومعاملاتنا اليومية فنحرص على إقامة حدوده فيها دون أن ننقطع عنها نهائياً ونهملها ونتركها لغيرنا والذي بالتأكيد سيسخرها لصالحه ,وبالتالي سنفقد دور الخلافة الذي خلقنا للقيام به. هل سمعت عن (وعّاظ السلاطين) هو اسمٌ لكتابٍ من تأليف الباحث العراقي محمد الوردي ,وقد اقتبست هذا الاسم اليوم لأقول بأن هناك من يستخدم الوعظ الديني عن قصد لأغراض دنيئة بصورةٍ بشعة تدمّر المجتمعات تكشف عن ضحالة عقولهم وما أكثرهم اليوم ,أولئك الذين يسترون عورات الحكّام بنقاب الدين ,أي يبرِّرون ويصمتون على ظلم المسئولين باسم الدين ,وأكثر أسلوب يضلِّلون به الجماهير المواعظ الدينية التي تشغل الناس عن دنياهم فلا يلتفتوا لحقوقهم الخاصة والعامة فيعيشون حالة من الخوف والقلق الناجم عن التخويف من ارتكاب الآثام والذنوب ,والتي يكون الخروج على الحاكم أحدها وليس آخرها...فينشغلوا عن البناء بكثرة السؤال والإستفتاء في أدق أدق التفاصيل والمفضية إلى التشديد والتضييق ما يجعلهم رهيني اللحظة مقيدي العقل محاصري العمل ,وكل ذلك يصبُّ في مصلحة السلطان الذي سيستمتع بنهب الثروات وسيتلذذ بالتسلّط والإستبداد. وليس هذا وحسب ,فكثرة مخاطبة العاطفة والروح تغيّب العقل وتجعله في حالة كسلٍ وانهزام واستسلام ,والذي بغيابه يغيب التوازن الداخلي في النفس البشرية والتحكم والإرادة الذاتية تصبح مسلوبة ,ومن هذا الإختلال الداخلي الذي سينعكس على اختلال الميزان الخارجي بانتشار الظلم والفساد في المجتمعات والسكوت عنه في حالة من السكون والركون إلى الراحة الروحية والتركيز عليها كبديل عن مجابهة الحياة وتحدي صعابها ,ما يجعل المجتمعات تعيش حالة من التخلف والتراجع والجهل الذي بدوره سيؤسس لخرافات تنتشر بين الناس كانتشار النار في الهشيم ,ما يعزّز للفكر الإنهزامي والمستسلم. لست ضد المواعظ الدينية ولكننا نحتاجها بقدرٍ محدود ,خاصة في وقت أصبحت منتشرة بكثرة بين الناس خاصة من خلال التقنية الحديثة ,في مقابل تغييب للغة العقل والحوار والعلم والتفكير ,والتي نحن اليوم بأمسّ الحاجة لها ,وليكن للموعظة وقتها وزمانها وما يلائمها من أحداث ,ولتكن لغة العقل هي لغتنا في كل زمن فلولاه ما استحقينا منصب الخلافة. [email protected]