فدعونا إذن نكتب عن العقل !...كانت آخر جملة اختتمت بها مقالي السابق في محاولة للنظر في الأفكار القابعة خلف سلوكياتنا اليومية والحياتية التي تؤثّر في مجتمعاتنا ,فما السلوك الناجم عنّا إلا صدىً لقرارٍ اتخذناه من داخلنا ,إذا كان القرار صائباً كانت نتيجته سلوكاً صحيحاً ,وإذا كان القرار خاطئاً كان السلوك كذلك ما يؤثّر على الواقع بالإيجاب أو بالسلب... وكوني أكتب مقالاً صحفياً فلا أريد أن أثقل على قارئي الكريم بالدخول في فلسفة التفكير التي تؤثِّر على قراراتنا ,ولكن سأركّز على بعض النقاط والأخطاء الفكرية التي يعانيها مجتمعنا .. إنها مجرد عادات فكرية ليست أصيلة فينا ولا هي جزء من عقلياتنا ,فهي ليست حالات ميؤوسة ,وقليل من التركيز وإرادة التغيير سيمكننا من علاجها بإذن الله. فمن أهم وأبرز مشكلاتنا الفكرية نقل العادة وذلك بإصرارنا على نقل العادات الخاطئة وتوارثها حتى تصبح جزءاً من ثقافتنا,سواء أكانت تلك العادات سلوكية في أفعالنا أو عقلية بمعنى أنها جزء من أفكارنا. يقول تعالى: (وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أولو كان آباءهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون)...كثيراً ما نرث أفكاراً وعاداتٍ سلوكية خاطئة من آبائنا ,قد تكون هذه العادات قد ورثوها هم من آبائهم أيضاً وآباؤهم ورثوها عن آبائهم وهكذا ..حتى لنجد أن لهذا الفعل أو لطريقة التفكير تلك جذوراً تاريخية تعود إلى قرن أو قرنين من الزمان أو أكثر ,وما زلنا نعيش عليها في القرن الحادي والعشرين دون أن نغيرها ,رغم أن الزمن تغير والأجيال تغيرت والأماكن والأحداث ,ونحن ما زلنا مستمسكين بتلك العادات وكأنها جزءٌ من ديننا أو هويتنا, وليست المشكلة في تمسّكنا بها أو إعراضنا عنها فهذا أمرٌ شكليّ وقد يكون شخصياً أكثر منه اجتماعياً ,ولكن المشكلة تكمن في عدم مراجعة تلك العادات ومحاكمتها عقلياً ودينياً..عقلياً أي من ناحية منطقيتها وصحتها وتوافقها مع العقل من حيث هي خرافة أو أسطورة أو فعل غير مسؤول ولا يلائم الواقع ومتغيراته, ودينياً من حيث هي تتوافق مع ما جاء في الكتاب والسنة ومع مقاصد الدين ومبادئه التي شرع لأجلها أم أنها محض تأويلات وافتراءات وتلفيقات تلبّست برداء الدين أو اجتهادات فقهية لعلماء عصر من العصور الفائتة ,فهذا هو التقليد بعينه والاتباع بغير علم ولا برهان . وما أهلك من كان قبلنا إلا اتباعهم من كان قبلهم من غير حجةٍ ولا برهان..قد يكون هذا الاتباع عصبية كمن يقول هذه عاداتنا وتقاليدنا علينا أن نتمسّك بها وكأننا إذا خالفناها سنتحوّل إلى أشخاصٍ آخرين وستتغير هويّتنا..وقد يكون التقليد خوفاً من المجتمع وهجومه علينا..وهروباً من هواجس سيقولون وسيقولون ما الذي سيقولونه عني لو خالفتهم,حتى ولو كانت مخالفتهم تصبّ في صالحنا ,واتباع تقاليدهم ستوقعنا في أشد الأزمات.. والأدهى من ذلك أن تتحول العادة إلى دين ونبحث لها عن دليلٍ وشاهدٍ شرعيّ نثبتها به لنوهم أنفسنا ونقنعها بأن خروجنا عنها يعدّ خروجاً عن الدين ,رغم أن الدين في مبدئه يرفض التقليد بغير علم ما يكرس لانتشار العادة وتثبيتها.. إن العادات في مجتمعاتنا تتحول إلى ثقافة والثقافة تتحول إلى مرجعية نقيس بها صحة أفكارنا وأفعالنا فنستبدلها بالدين الصحيح الذي يعلو بالإنسان وأخلاقه وأفكاره ,فنعيش بثقافة تجرنا إلى الوراء وتزيدنا تخلفاً وعماء..ما يوقف عملية التفكير وإنتاج الأفكار لتصبح أفكارنا تدور حول نفسها وتكررها . قاوموا رغبتكم في تقليد من سبقكم وكونوا متميزين متفرِّدين وتنافسوا على التجديد والتغيير والاجتهاد والعمل مهما تعرضتم للانتقاد ,مادام وفقاً لمقاصد الشريعة ومبادئ الدين.. فالإسلام جاء كما يقول عليه الصلاة والسلام : (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق)...هناك عادات حسنة جيدة تزيد الألفة بين الناس وترتقي بالمجتمع فكريا واجتماعيا هذه تستحق أن نغذي بها ثقافتنا وما كان غير ذلك من عادات ذميمة علينا القضاء عليها ومقاومتها وتكسير قيودها والتوقف عن التفكير من خلالها وفرضها على أفكارنا كمسلمات لا تقبل النقاش..راقبوا تلك العادات الفكرية والاجتماعية واحذروا الوقوع في براثنها. في الظل.. الأعمى يعتمدُ على عصاه ليعرف معالم طريقه ,بينما أكثر المبصرين يقعون في ذات الحفرة التي وقع فيها من قبلهم,لا لشيء سوى أنهم احترفوا مهنة التقليد..! [email protected]