لا أحد يعرض كيف هبّ طائر الغراب ضيفاً ثقيلاً على المناطق والمدن الساحلية وبالذات مدينة الحديدة التي تكاثر فيها بسرعة النار في الهشيم واتخذ من منازلها وشوارعها وأحواش المنازل ووايرات الكهرباء وكابلاتها أماكن لوضع بقاياه الكريهة، تقول الرواية إن أحد محافظي الحديدة في أوائل السبعينيات أراد أن يكون للحديدة طيور كطيور الغابات الأوروبية التي كان يراها في شاشات السينما أو في سفره ربما.. فأرسل أحداً من مقربيه ممن لم يتمتع بالذوق الرفيع، ولم يستمتع في حياته بمقطع من موسيقى جميلة النغم إلى الهند فوقع اختياره على نعيق الغراب.. فأحضر معه زوجين من هذا الطائر، وأطلقهما في مدينة الحديدة على شاطئ البحر.. فأضحى اليوم آلافاً مؤلفة ينعق بأصواته النشاز التي «تفقع» طبلات الأذن، ويتبرز في كل البقاع، وحتى على رؤوس المارة، الغراب طائر ذكي بكل المقاييس، وأذكى الطيور، وهو من أهدى هابيل في القرآن الكريم إلى مواراة سوأة أخيه قابيل بعد أن قتله.. وهو الأفطن والأسرع للتعاون والتكافل مع أبناء جنسه سريع التجمع والغضب إذا ألم أذى بأحد أبناء جنسه، وفي رواية متواترة أن نقر أحد الغربان ضلع أحد الرجال حتى تدفق الدم من رأسه، انتقاماً لغراب مات أو قتل في “حوش” منزله غير أنه لا يتمتع بأي كياسة في ممارسة حياته وطيرانه، كثير التنقل بلا سبب، وكثير المخاوف والشكوك. عنصري حتى النخاع ليس له من الألفة شيء، ولا من الأصوات أكثر من النعيق المزعج يعيش على نفايات الأسماك من البطون والرقاب والحنك ثم يضفعها كيفما اتفق في بقاياه في نوافذ المنازل وعلى الرؤوس والسيارات والشوارع، كانت المناطق الساحلية يعيش فيها الطائر الوديع الجميل “النورس” غير أن هذه النوارس فقدت ولم يعد لها وجود بعد أن غزاها الغربان.. هل تتمتع النوارس بأذواق موسيقية رقيقة جميلة أفضل من الذي أعجب بالغراب.. لذا هجرت الشواطئ الساحلية حين غزاها زعيق الغربان، أقول لماذا أرسل المحافظ من لا يتمتع بذوق موسيقي جميل، ولو أنه كذلك لاختار أزواجاً من “الهزار” وهي موجودة في حدائق الهند وغاباته بكثرة، كنت أسمع عن هذا الطائر الهزار وأتخيل صوته في قراءة بعض القصائد الشعرية الغنائية، ولم أصدق أن صوتاً سمعته ينطلق بنغمات موسيقية عذبة في إحدى حدائق مدينة سوتش حتى رأيته وهو يتلو سيمفونيته الرائعة من فم رقيق عذب.. ليس له في منقار الغراب، أسماه البعض “غراب البين” أي الآتي من بعيد ويعتبره البعض نذير شؤم. في العام 1986م كان هذا الطائر يملأ سماوات عدن وحدائقها، وقد تأذى السكان من زعيقه المنفر وطيرانه بلا هدى، وضفعه أجبر الدولة على التخلص منه ببيض مسموم خفف من كثافته كثيراً يومها، لكنه لم يخفف من مخاوف صديقي سلطان الصريمي وتشاؤمه إذ كان يوقظنا مع بدايات الخيط الأبيض من الفجر في “الجولدمور” فيقول سلطان “اللهم اجعله رئوان” هذه الغربان ونعيقها تنذر بشيء، وعلى سبيل التندر: والغربان يا محمد مثنى كلما سمع نعيق غراب، بعد ثلاثة أسابيع من وجودي في صنعاء كانت أحداث 1986م لا أعرف إن كان صاحبي سلطان يحدس شيئاً في الساحة السياسية وعضويته في الاشتراكي أم إنه يتطير من هذا الطائر وصوته؟؟.. قال أحد المارة وهو يهمهم في الشارع ويمسح شيئاً علق بشميزه في غيظ: يبدو أننا لن نتخلص من هذا الكريه إلا إذا “” على رأس مسئول، لا نريد أن يخرى غراب على رأس مسئول أو متنفذ ليصحو قوم النخبة على أذى هذا الطائر وقلقه وإزعاج للسكان على مدى الأربع والعشرين ساعة لتخليص الناس منه، ولكن أن ترتقي أذواقهم فنياً على الاقل لسماع فزاعاته فيلهمهم لتخليص مدن الشواطئ والمرافئ الجميلة من هذه الأصوات النشاز حتى تتمكن النوارس من التحليق والعودة، ويتمكن الناس في هذه المناطق وبالذات مدينة الحديدة من التماس الهدوء والسكينة.. فيكفي الناس أذى بعضهم كما عبر أحد الأصدقاء من المثقفين المدنيين بأصوات الميكرفونات من الجوامع، وحفلات الأعراس التي تتحول أفراحها إلى نكد للجيران، ورعيد الموتوسيكلات وسجلاتها من إبداعات أصدقائنا الصينيين الغرائبية، وقوارح كلاشينكوفات المشايخ والقبائل والمضاربين على الأراضي. “فلا يؤاخذ الله المرء بغرمه مرتين”.. فكيف للحديدة أن تؤاخذ بأكثر من غرم، بما في ذلك غرم الغربان.. رابط المقال على الفيس بوك