(ألفِتْ يمين، والفِت يسار، وافْهُقْ .. واقول لقلبي: خيرْ .. دُق لك دُقْ ..) أربعون يوما .. منذ لملمة أشلاء عمرك المتناثرة على ضفاف الوجع، مضيت نحو الغياب الأبدي تاركا لنا شجنك الخرافي المدون في حواشي ومتون الأفئدة، نشيد صلاة ومحبة، وسيرة كفاح ثوري عنيد.. فاجعة رحيلك عادت بي إلى زمن قديم ، لمحتك فيه لأول مرة.. كان ذلك الآن، قبل عقود، ذات شتائي بارد في( 1978م ) عندما كنتما أنت والفنان العبقري العظيم “أيوب طارش عبسي”، تجوبان رحاب وقرى ومدن هذه البلاد، تلملمان شتات المهاجل من شفاه السواجع، وحناجر المغنين الشعبيين، تدونان النشيد والنشيج، لتعيدا صياغة ما جمعتما في ملحمة فنية عبقرية، قولا ولحنا يمنح الأرض عنفوان عطاء.. حينئذ، وأثناء خروجكما من مقيل حافل بالهديل، في قلعة الصعيد، بني وهبان، لمحتك طويلا مثل نخلة باسقة مثقلة بعناقيد المواويل، وكروم الفن، أسمر اللون كأفق أصيل غائم ببشارات المطر.. بعد أقل من عام عدتما اثنين، أغنية مشبوبة بشجن العشق، ابتهالات ناي تسافر في الآفاق حبا وندى.. وتربض في صحون القرى مياجمَ وبيادرَ .. محراثا يضاجع الأرض فتنجب أشهى الثمار.. إلياذة بذل وكفاح : هلا معيين، هلا يالله، يا رازق الطيرْ ترزق تخارج من النَيرْ هلا معيين، هلا ما في المقايل لنا خير ولا السؤال من يد الغير سَلمُه واسَلِمْ ، سَلمُه واسَلِمْ ، سَلمُه واسَلِمْ ، سَلمُه واسَلِمْ ، وهناك في ريف قصي كنت تسند قامتك الفارعة على جدار قروي عتيق، تنسج للأرض من إبداعك أهازيج ظلال، وأفياء فرح، تقي السنابل والزرع هجير القيض، وتستنفر أمومة الأرض لتجزل العطاء .. سيدي أيها الراهب المتدثر بشعاع الحرف، لولا أهازيجك الفواحة بنكهة التراب، العاطرة بنثيث نسيمات الغبش المؤرج بعبق أزهار شجيرات الخزامى المنتظمة في شواجب الحقول مثل أحزمة ذهبية تطوق خواصر الصبايا .. ما كنا لنعلم أن الأرض شغوفة بالأغاني، أو أن الماء يحجم عن السريان في أوردة السواقي رافضا التغلغل عبر مسامات التراب .. فإذا سمع بنجواك الحميم، تملكته رغبة السفر في شرايين الحقول ليمنح الأرض الموات الحياة. شبابة الساقية في ظل وادي بنا هناك أعطى التراب الحب خلي وانا واليوم ماذا ..؟! ما الذي أكتبه اليوم عنك ؟ ومن أين لي لغة استثنائية تستوعب معناك الباذخ بالتسامي حتى ملامسة السماء بأجنحة نضالك السبتمبري، وكفاحك المرير في ساحات وشعاب الانتصار للحياة ..، المتواضع حد التماهي والانصهار بحرارة وحنين الفلاح المتشوف لدنو مواسم الحصاد وجني ثمار كده وكدحه .. وكذلك احتراقك في كبده كمدا وحسرة عندما تتشح مدامع السماء وتمر سحائب الغيث فوق حقله جافة مثل كومة من غبار ...؟! من أين لي مخيلة عبقرية تختصرك وأنت في ساحات النزال الوطني بقسمك الحاسم بمجد الوطن وباسم مؤمن بانهزام الدجى وانتصار الصباح ، أن لا تلين لك قناة ، ولا تنحني لك قامة، أمام طواغيت الاستعباد وتابوهات الذل..؟! يمينا بمجدك يا وطني ... وعزة كل فتى مؤمن ... سيدي ، أيها الراحل تاركا في جدار القلب شروخا تنزف منها الحسرات شلالات آه، وأنينا وغضبا على هذا الموت الأصم الذي لو كان يعي ، لو كان له قلب تطربه الأغاني، لكان تحاشى اختطافك، ولما استلذ صناعة فاجعتنا برحيلك..! لو كان للغياب حاسة تستنشق عبير أغانيك الغيورة من هبوب الرياح التي كانت تسرح جدائل البنات فوق (بير الأجعود ): عنقودْ ورا عنقودْ .. حلَقْ حلَقْ سودْ لبقي حاضرا، واستبقى حضورك .. لك الرحمة والمجد والخلود، ولنا مرارة الحزن على رحيلك.. رابط المقال على الفيس بوك