(1) تجمدت القوى الحداثية في الوطن العربي عند خط الحداثة, واهمةً أنها قد وضعت يدها على النظرية النهائية للنهوض والتطور, وهذا التصلب جعلنا نقف اليوم أمام صنمية حداثية غارقة في التخلف والتقليد, ولا تريد أن تفسح الطريق للقوى الجديدة التي تستوعب متغيرات الواقع وتتعامل معه بأدوات معاصرة. أما مقولات الحداثة فقد أصبحنا معها أمام أصولية حداثية لا تقل شأنًا عن الأصولية التقليدية, بل إنها أشد منها, لأن هذه الجديدة لا تسمح للفكر بإثارة السؤال حول صلاحية كثير من الأفكار التي تسوّق اليوم على أنها مسلمات حداثية لا تقبل النقاش. الحداثة العربية نشأت نخبوية ولا تزال نخبوية, واليوم هو زمن الجمهور.. ورموز الحداثة أصبحوا بمثابة طواغيت جدد سواء في مجال الحداثة الثقافية أو الحداثة السياسية.. فثمة تمركز وتعالٍ ونرجسية تدفعهم إلى مواجهة النقد ليس بالحجة وإنما بالتهكم والسخرية, وكأن النموذج الحداثي معصوم عن الخطأ وصالح لكل زمان ومكان. إن الواقع اليوم يتغير ووعي الجمهور يتشكل من جديد ولا يزال كثير من قوى الحداثة تتعامل بالأدوات نفسها التي تعاملت بها في الخمسينيات والستينيات والسبعينيات من القرن الماضي, لكن الأمر يختلف عند رموز الحداثة الغربية, فهم اليوم يتراجعون عن كثير من أفكارهم التي نظّرت للحداثة, ويعيدون قراءة خطابهم, وهم الآن في غمرة الخطاب الواصف لكثير من الحلول التي ينبغي أن تخرج العالم من مأزقه الحداثي. إن مشكلة النسخة العربية للحداثة هي أنها ظلت حتى اليوم كالجوهرة في يد الأعمى.. وهذا العمى هو الذي جعلها ويجعلها تتحسس طرق التطور ولا ترسمها لتمشي فيها بثبات.. ولذلك ظلت قوى الحداثة تخاف من الديمقراطية - لأنها تصنع المفاجآت- مع أنها تحتكر حق التنظير لها.. وحينما كان هذا الخوف في حيز الإضمار كانت هذه القوى ولا تزال فلتات لسانها تهلل للديكتاتورية وترى أن الديكتاتورية التي تنتج خير من الديمقراطية التي لا تنتج, مع أن جينات الفشل موجودة, والحال هذه, في كلا النموذجين, فالشعوب لا تسعد ولا تجد للتطور طعمًا إلا بالديمقراطية المنتجة وحدها. كما ظلت الحداثة العربية تتخبط في التناقض بين الأفكار والممارسات, وهذا التناقض ازداد اليوم حين تمسكت بعض قوى الحداثة بمشاريع تقليدية قادتها إلى الارتماء في حضن الأصوليات المذهبية والسلالية كتكتيك لمحاولة كسب المعركة بعد عقود من الفشل. أفلا يكون محقًا اليوم من يقول: إن الحداثة العربية مجرد ضجيج أو ظاهرة صوتية, والدليل أنها لم تغادر حدود الأدب؟ (2) تفجرت ثورات الشباب في 2011م وكانت في حقيقة الأمر رغبة جماهيرية جامحة في صناعة تحول نوعي في استراتيجية التفكير يقود المنطقة العربية إلى واقع جديد عنوانه المراجعات وإعادة القراءة وكشف عيوب الخطاب الحداثي التي أعاقته عن تحقيق الأهداف. وبالفعل أثبتت هذه الثورة سقوط الحداثة التقليدية, حين تماهت النخبة مع سلبيات الواقع وانتفضت الجماهير لتصنع التغيير.. وحين تخلف “أدب النخبة” عن مواكبة الحدث الثوري ونهض “الأدب الشعبي” ليعبر عن خيارات المرحلة وهموم الجمهور. ومع قيام ذلك الفعل الشبابي الجديد نظل اليوم بانتظار القوى الشابة التي لا تتعاطى غير المعرفة والتدريب لتسحب البساط من تحت أقدام التقليديين والحداثيين على السواء, فلم نعد ننتظر في ظل هذا العمى سوى مزيد من إفراز الأزمات التي تنتهي بالتسويات والتقاسم, ولا ينبغي للمستقبل العربي أن يظل أسير هذين القطبين.. وإذا كان اليوم هو زمن التحولات فإنها فرصة الشباب والكوادر المدربة أن تنتشل المجتمع العربي من بين فكي التقليد والحداثة التقليدية لتنتصر لهموم الجماهير وطموحاتها في التعليم والثقافة والصحة والغذاء والتطور. [email protected] رابط المقال على الفيس بوك