الهجوم على القبيلة في زمن الحقيقة فكر عائم وجلود محروقة !! من المضحك المبكي أن تجد اليوم بعض الكتابات والآراء لا تزال رهينة لفكر الخمسينيات والستينيات والسبعينيات الذي كان يقوم على أساس نظرية الفرز الأيديولوجي وثنائياتها المحببة “الرجعية والتقدمية ، الأصولية والليبرالية، اليمين واليسار ، المتخلف والعصري ، القبيلي والمدني”. نحن اليوم في زمن سقوط الأيديولوجيات ونهوض الفلسفات والأفكار البرامجية وتدافع الأحزاب والكيانات السياسية على أساس برامجي، فالناس في هذا العصر لم يعودوا يختارون ممثليهم على أساس أيديولوجي كما كان الأمر في السابق، وإنما يختارون من يعتقدون أنه سيحقق لهم المنافع المطلوبة سواء نجحوا في اختيار الشخص المناسب أو لم ينجحوا، فهم في كثير من الأحيان لا يعتمدون في هذا الاختيار معيار الكفاءة العلمية والمهنية، فكل ما يوجههم هو اعتقادهم بأن هذا الشخص المختار أو ذاك له من الحيل والوسائل والحنكة ما يمكنه من خدمتهم وتحقيق طموحاتهم، وأقرب دليل على ذلك ما كان يجري - وربما سيظل جارياً - في اليمن ومصر وغيرهما من البلدان العربية ذات التعدد السياسي، فالأحزاب الحاكمة ظلت عشرات السنين تتجذر في السلطة وتزيد في الهيمنة على مقاليد الأمور من خلال الانتخابات، أي من بوابة الديمقراطية والتعددية وليس من باب الديكتاتورية والشمولية، وهذا بغض النظر عن نوع تلك الديمقراطية ومدى مصداقيتها، فالمهم أن إنسان هذه البلدان حينما تأزمت أحواله وظل منذ طفولته يتجرع النكبات ويتكبد الأهوال، ترسخ في ذهنه أن فاقد الشيء لا يعطيه وأن “الأمي” صاحب الخبرة أفضل من المتعلم بلا خبرة، واستقر في ذهنه أن الأيام تمضي وقد قدّم كثيراً من التضحيات، وما عليه إلا أن يحرق المراحل إلى الإنجازات، وهذا التفكير تحول إلى ثقافة تجذرت في اللاشعور الجمعي وكان من إفرازاتها شعور هذا الإنسان بعبثية التغيير وخوفه من المجهول وإيمانه بضرورة الصبر على واقعه حتى يحقق ما يريد، وهو ما جعله يفضل ترشيح الشيخ الأمي على منافسه المؤهل وذي الكفاءة، وتفضيل من في السلطة على من هو خارجها؛ لأن الأول صاحب مركز وهو أقدر بعلاقاته ومكانته الاجتماعية على تحقيق ما يصبو إليه المواطنون. فنحن إذن أمام إنسان عربي له مفهومه الخاص للسلطة وله ثقافته الراسخة التي جعلته متخوفاً من صاحب السلطة لا متفاعلاً معه، وهكذا فإن تعصبه للنظام السياسي الذي يحكمه لا يكون تعصباً أيديولوجياً أو حباً في النظام السياسي وإنما هو حقيقة الأمر تعصب للطموحات التي لا يمكن التنازل عنها، وتخوّف من المستقبل، وإيمانه بعبثية التغيير، لا سيما بعد أن تأكد له زيف الشعارات في الماضي وتحول الثورات التحررية إلى كيانات رمزية شكلية وأنظمة تأكل نفسها، ولقد شبّت ثم بلغت أشدها ثم شاخت وهي عاجزة عن تحقيق شيء يقنع هذا الإنسان بأن التغيير الحقيقي موجود وأن الحاضر أفضل من الماضي، فالبؤس والعدمية والعمى لا تزال كأنها ملح الطعام في المجتمعات الثائرة. وعلى العموم فإن على مثقف اليوم ان يدرك أبعاد الشخصية اليمنية المعاصرة وطابعها النفسي، وعليه أن يعي حقيقة الواقع وما يتطلب من منطق مجرد من التمترس خلف فكر عتيق لا يصلح أن يكون لغة للتخاطب في عالم اليوم، عالم الإنترنت والفضائيات والعولمة. إن الإصرار على الاستمرار في فرز الناس وفق ثنائية “تقدمي - رجعي أو تقليدي - حداثي” هو الرجعية بحد ذاتها، كما أن الواقع لم يعد يقبل بمصطلح “القوى التقليدية” واحتكار المدنية لفئات محددة ترى في نفسها الملهم الوحيد لانتشال الإنسان اليمني المعاصر من هذا الواقع، وهي بناءً على ذلك تستبعد القبيلة من دائرة المدنية وتتهمها بأنها العائق التقليدي الكبير أمام تحقيق الدولة المدنية الحديثة .. والحق أن هذا موقف عائم ومنطق مكرور يستعصي على التغيير والتعديل.. وهو مبني على فكر هروبي وغير فاعل، لم ينتج عنه إلا زيادة ظاهرة القبيلة والقبائلية، فكلما زاد التباكي أمام الجمهور وزادت الشكوى من جبروت القبيلة زاد حجم القبيلة مدنياً وزاد عمقها السياسي وتأكدت عضويتها الفاعلة في بنية المجتمع المعاصر .. والحقيقة التي لا يستطيع أحد إنكارها ان القبيلة في اليمن حققت من القوة والحضور والعضوية بمجيء الثورة الشبابية الشعبية السلمية ما لم تحققه منذ قرابة العقدين من الزمن، والسبب أن إنسان القبيلة ظل منذ ما بعد ثورة سبتمبر يسعى نحو “المدنية” بينما كثير من المثقفين التقدميين ظلوا من حيث لايدرون سائرين نحو التقهقر وإعادة إنتاج الرجعية تحت أقنعة حداثية، أي إن إنسان القبيلة حين وصل إلى ذروة التقليد والتشبع بثقافة الماضي كان المثقف التقدمي قد وصل إلى ذروة الحداثة والتجديد، وكلا هذا وذاك قرر أن يغير، وهذا مانراه يحدث اليوم، لا سيما بعد أن تسبب الربيع العربي في كشف الغطاء عن الواقع وتعرية شخوصية ليتميز ذو الجلد المحروق "المشوّه" الذي ماتت فيه خلايا الحياة من ذي الجلد السليم الممتلئ حيوية ونشاطاً.. وللحديث بقية.