كان الدمع يتدفق من عينيها بكثافة وحرقة ,امرأة مسنة تنبئ ملامحها على إنها جاوزت عقدها العاشر, ويبدو ان الزمان بقسوته ورتابته قد أفلح أخيراً أن ينال منها لكن دون ان يقعدها على أية حال...هالني أمر دموعها السيالة على تلك التضاريس المتجعدة وبقائها المستمر محشورة في زاوية ضيقة قبالة قسم الإنعاش في طوارئ المستشفى, فلم أجد بداً وأنا أمشط ممرات المستشفى للإشراف على سير الدوام من التوقف بين يديها ولم أبدأ حديثي معها حتى بادرتني بصوتها المتهدج المكلوم:«ياولدي هذا قدو الرابع» ثم رفعت رأسها نحو السماء وتمتمات متحشرجة بالأنين والدعاء تتصاعد إليه لا سواه الشافي الكافي الله الرحمن الرحيم. ابنها الرابع يرقد على سرير المرض وهي بشيخوختها المتعبة تفترش تلك الزاوية منذ يومين رافضة الطعام ولا تكل ولا تمل من البكاء والدعاء, تحرس فلذة كبدها الذي تجاوز الخمسين من خطر الموت وهي الأكثر عرضة واقتراباً منه,, حاولت إدخالها لرؤيته فقيل لي بأنها وقت ان تراه تلتصق متشبثة بالكرسي الذي يرقد عليه ابنها ثم إنها تأبى المغادرة إلا بعد جهود شاقة من قبل المرضى والمرافقين. قعدت محطما أمام هذه الروح الشاهقة عطفاً وحناناً, ثم ارتميت في إحدى الزوايا النائية تجلدني سياط التقصير وتقذف بي نحو متاهات سحيقة من التساؤلات التي لا أستطع الفكاك منها بسهولة : أي قلب هذا الذي يخفق بين حنايا الأم, وأي وقت كئيب قاصر تافه, هذا الذي نعيشه دون ان يغسلنا بشلالات الطاعة والوفاء لذلك الفؤاد الفواح بالحب والشفقة, لتلك الينابع المتدفقة بالتضحية والإيثار؟ ماذا قدمنا في مقابل تلك المكرمات التي تتسع ولا تنفد رغم ضيق الحياة وحقارتها وزوالها؟ المسارعة المسارعة فان الوقت يمضي ولن تبق سوى الحسرة في الدنيا والحساب والعقاب في الآخرة فهنيئا للمبادرين وسحقا وتعاسة للمتهاونين.