حركات الاحتجاج الجماهيري، أو الانتفاضات الشعبية، أو الثورات التي شكلت ظاهرة غلب وصفها بمسمى ( الربيع العربي ) أعادت للقومية العربية حضورها في الوطن والأمة حضوراً شمل الانتماء والطموح وجسّد وحدة الوجود والمصير لأقطار مزقتها التجزئة ، وشعوب تسلط عليها الاستبداد وحقوق بغى عليها المفسدون والغزاة المعتدون. هذا الحضور الشامل والقوي للعروبة في صورته التي جسّدت وحدة الاستبداد وواحدية النضال ، يمثل في إطار ماسمي الربيع العربي تناقضاً صارخاً في مفارقات الغرابة الناتجة عن غياب القومية، مشروعاً وحركةً ، عن نتائج الأحداث والمآلات التي أسفرت عنها حتى الآن ، وهذا الغياب لا يدل عليه صعود أحزاب التيار الديني إلى سلطة الحكم فحسب ، بل تتجلّى شواهده في غياب قضايا الأمة في التحرر والتوحد والاستقلال الحضاري ، وتحديداً غياب فلسطين وما يرتبط بها من تحرر واتحاد في سياق الصراع التاريخي بين الأمة العربية والعدوانية الصهيونية. في حضور القومية، توحدت المشاعر والمواقف بين شعوب الأمة في كل الأقطار ، وتوحّدت الوقائع في الواقع على استبداد السلطة وانتفاضة الشعوب ، كما توحدت المفاهيم في المجال السياسي ، لتعود العروبة إلى هذا المجال فكراً وتاريخاً في الحاضر والمستقبل ، بحثاً عن جذور ومكونات الاستبداد العربي ، وعن البديل الممكن له في التراث والعصر ، غير أن هذا الحضور توارى تدريجياً ليغيب تماماً عن الواقع ومتغيراته المتلاحقة دون أن نتجاهل بعض ملامح الحضور القومي في تونس ومصر كما في ليبيا واليمن. في تونس بقي نظام بن علي بعد فراره وصعود حركة النهضة إلى هرم سلطة الحكم من ناحية بقاء تونس في معسكر الاعتدال العربي والتبعية لمنظومة الغرب الرأسمالي ، كما بقي نظام مبارك بعد مغادرته السلطة إلى السجن ، متجسداً في بقاء مصر في موقعها الذي حددته لها معاهدة الكامب على الصعيدين: العربي والدولي وفي اليمن استمر النظام بعد تنحي الرئيس صالح ووراثته بالمناصفة بين السلطة الحاكمة والمعارضة ، أما ليبيا فقد كان التغيير شاملاً وكاملاً ، حتى إن هذا القطر يعيش فوضى السقوط التام للنظام القديم دون أن يجد البديل المناسب ولو في مجرد اسم للدولة ونظام الحكم، ولا يعرف الليبيون بعد زوال الجماهيرية ، ما إذا كانوا في جمهورية أو ملكية لدولة بسيطة أم مركّبة. لم تخسر واشنطن وباريس حليفيهما في تونس ومصر ، كما لم تتضرر مصالحهما في البلدين برحيل بن علي ومبارك ن بل تعززت هيمنتهما ، وتجذرت مصالحهما ، على الأقل من ناحية الشرعية الشعبية التي جاءت بخلف يحرس إرث الرجلين ويتعهد بحمايته والمحافظة عليه وهي الشرعية التي كانت مفقودة وغائبة عن بن علي ومبارك ، فالأغلبية الشعبية التي نالتها النهضة في تونس وجماعة الإخوان في مصر ،هي الشرعية الشعبية المعطاة صراحة وضمناً للتبعية والاستسلام. من وقائع التاريخ ومعطيات الحاضر ، تتحدد سياسات دول حلف شمال الأطلسي ومواقفها تجاه السياسات واتجاهاتها في المنطقة العربية بمرجعية مصالحها المتجسدة ببقاء وأمن الكيان الصهيوني في فلسطينالمحتلة ، ومعنى هذا إن هذه الدول سوف تعادي وتحارب أي حركة تتجه نحو إنشاء أي تهديد ممكن أو محتمل للكيان الصهيوني ، ولن تسمح به كما لن تسمح له ان يوجد فضلاً عن ان يقوى ويتسع ، وبالتالي نخلص هنا إلى القول :إن حلف الأطلسي لن يسمح بتحول ديمقراطي في الوطن العربي معادٍ لإسرائيل أو مهدّد لأمنها ، لأن الديمقراطية هي الوسيلة الوحيدة لشعوب الأمة العربية لتحقيق طموحها القومي في التحرر والاتحاد والاستقلال الحضاري. كان من الواضح في سوريا إنها تتجه إلى التطور السياسي ، المحقق للحرية والديمقراطية بفعل التراكم المتنامي للتحولات الجزئية في المجال السياسي،والمتعززة بتطور اجتماعي وتنمية مستقلة ، وكان ذلك إذا تحقق بحركة شعبية تناضل في سبيل الرشد السياسي سلمياً ، أن يتحول بسوريا إلى قوة مؤثرة في موقعها ودورها في محيطه ، وهو أمر ليس بمقدور الكيان الصهيوني أو حماته في الحلف الأطلس أن يتصدى له عسكرياً ، فلجأ إلى إجهاضه وتدميره بالتآمر من خلال الحرب التي أشعلها هناك كحرب بين الديمقراطية والاستبداد. وحرب الأطلسي في سوريا لا تحتاج في إثباتها إلى دليل ،لأن الحلف يعلنها صراحة وإن فشل في شرعنتها في الأممالمتحدة ، وهو يتمسك بها خياراً لا يقبل معه أي تسوية سياسية تبقي نظام الممانعة وتحصنه بقوة الرشد السياسي في الحرية ونظام ديمقراطي ، لأن المطلوب أطلسياً من سوريا هو التغيير الكامل الذي ينقلها إلى معسكر الاعتدال العربي ، أو يخرجها تماماً من معسكر الممانعة بالتدمير والتقسيم. [email protected] رابط المقال على الفيس بوك