سأبدأ معكم من الأزمة النفسية التي يصاب بها كل يمني غيور على وطنه حين يقرأ حجم المخالفات والعبث والفساد والنهب الذي يغطي قطاعي الثروة النفطية والثروة السمكية من رأسهما حتى أخمص أقدامهما, وذلك ما كشفت عنه رؤية فريق القضية الجنوبية لمحتوى هذه القضية, مدعمين رؤيتهم بالأرقام والإحصائيات والأشكال البيانية.. الفساد يلوث كل شيء في هذا البلد.. واطلاعك على الحقائق سواء في رؤية هذا الفريق أو غيره يدخلك في فوضى من التفكير والشعور بالقرف من هذا الطريق الذي اختار اليمنيون أن يسلكوه إلى المستقبل. على الأقل, وضعتنا رؤية أولئك لمحتوى القضية الجنوبية أمام أوجاع وأدواء أُريد لهذا الشعب أن يتعايش معها ويؤمن بضرورتها لاستمرار الحياة .. وهي أوجاع أعتقد جازمًا أن أيًا من أعضاء فريق القضية الجنوبية لا يملك إلا أن يقول: إن هذه الرؤية لعمقها وشمولها شخصت أدواء الوطن كله بشماله وجنوبه وشرقه وغربه لنصبح جميعًا أمام قضية يمنية كبرى.. أقول ذلك؛ لأن المتهمين بالفساد ذبحوا الوحدة, وذبحوا الجنوب, وذبحوا الوطن كله والإنسان اليمني في أي مكانٍ كان؛ من الوريد إلى الوريد. لا يهمني أن أقول: إن ما تسنى لي قراءته (القطاع السمكي والنفطي) من تلك الرؤية لمحتوى القضية الجنوبية فيه تشخيص جاد وجريء قد يخجل كثيرًا من القوى السياسية التي اعتادت أن تخرج للجمهور بمقالات إنشائية مرصعة بالتعبيرات الساحرة والقادرة على تمرير المغالطات المنطقية.. لا يهمني ذلك .. ولا يهمني مقدار ما أصاب فيه فريق القضية الجنوبية ومقدار ما أخطأ, إذ لا يمكن لأي إنسان أن يدعي الكمال وامتلاك الحقيقة المطلقة, فالقضية الجنوبية نفسها قضية إنسانية وليست قضية علمية, وما هو إنساني؛ تتعدد فيه الآراء والتفسيرات, ولذلك فالحوار سيسمح للجميع أن يناقش ما احتوته تلك الرؤية من قضايا وستتعدد الآراء ثم ستتقارب وجهات النظر ومقترحات الحلول. ما يهمني ويثير في نفسي موجة من الحزن أننا كيمنيين أخطاؤنا تكلفنا الكثير.. عدم جديتنا في التعامل مع بعضنا .. سكوتنا عن أخطاء بعضنا ونزواتهم وأطماعهم .. عدم نجاحنا حتى اليوم في إيجاد قانون نحترمه ونلتزم به من أجل مستقبل أبنائنا .. تبلدنا أمام تبديد الثروات واستنزاف الموارد وعجزنا عن إيقاف من يتربص بها .. وسكوتنا عن سرقة تراثنا من فنون ومهارات ومخطوطات وآثار.. كل هذا وغيره الكثير والكثير من فوضى وفساد ونهب وجفاف في الضمير الوطني لا شك أنه جعلنا ندفع الثمن باهظًا من صورتنا أمام العالم وعظمة تاريخنا وعراقة وجودنا في هذه الحياة.. والأكثر إيلامًا أن سياسيينا اعتادوا على تسويقنا للعالم على أننا شعب متخلف يعاني الفقر وينخر فيه الفساد وكأنه أصبح من المستحيل أن نتغير وننهض .. ومع كل هذا فلا يزال للأحلام مكان في قلوبنا.. وثمة شعور بالاعتزاز بالذات. لكنك كإنسان يمني قد يأتي من المواقف ما قد يؤثر فيك ويهزك من كيانك ويشعرك بالغبن أكثر من أي شيء آخر, فيبدو هذا الموقف كالقشة التي قصمت ظهر البعير, لاسيما أن يكون هذا الموقف من الأخ الشقيق (وظلم ذوي القربى أشد مضاضةً .. على النفس من وقع الحسام المهندِ) .. تخيلوا أن يكون هناك برنامج كبير للمواهب الغنائية في العالم العربي, لم تجد فيه أحداً نبس ببنت شفه عن شيء اسمه تراث غنائي يمني أو أغنية يمينة أو دان حضرمي أو أغنية لحجية أو شعراء يمنيين أو مطربين يمنيين كبار.. في حين يتحدثون عن قدود حلبية ومواويل عراقية ومواويل خليجية .. طبعًا أنا لست ناقدًا فنيًا ولست متخصصًا في الموسيقى .. لكنك كيمني تشعر بأن الآخر لا يأبه لك لأنك لا تأبه لنفسك.. وليت الأمر وقف عند هذا الحد, فقد عرض لي أحد الأصدقاء مقطعًا للمطرب اللبناني (الشاب) راغب علامة أحد أعضاء لجنة التحكيم في هذا البرنامج الغنائي, وهو يؤدي أغنية (سر حبي فيك غامض) للراحل حسين أبو بكر المحضار وأبو بكر بلفقيه, وما إن أكمل أداءها حتى مضى بلغة المخضرمين يفاخر بأنه أعجب بهذه الأغنية من التراث الخليجي – هكذا قال: “الخليجي” – وعمل على تجديدها!!.. فواخجلااااااه من المحضار وبلفقيه.. مع أن هذا المطرب الشاب كما قيل قد غناها منذ سنين, وهذا يعني أنه سرق شيئًا لا يعلم أصله ومن صاحبه, فإذا كان لا بد أن تسرق فعلى الأقل اعرف ماذا سرقت!!. صحيح أن تراثنا سُرق الكثير منه.. لكن أريد أن أقول: مثل هذا الموقف يغضبنا ويثير فينا الاستياء كيمنيين من أبناء الشمال مثل أبناء الجنوب, وهذا يعني أن القضية الجنوبية هي في مسماها العميق (القضية اليمنية), فكلنا يمنيون, وكلنا ينبغي أن نعيد الاعتبار ليمنيتنا وتراثنا وحضارتنا.. فالفساد قزّمنا .. وثرواتنا منهوبة وتراثنا منهوب ومع ذلك لا يحترمنا من ينهبنا؛ لأننا لم نعمل من أجل أنفسنا بقدر عملنا من أجل جيوبنا .. لأننا فرطنا بحقوق بعضنا ففرط الآخر بحقوقنا جميعًا .. هذه هي القضية الجوهرية, وهي القضية التي (ما تحملها ملف) - على حد قول المحضار في قصيدة الأغنية المذكورة آنفًا .. اللهم لا تجمع علينا عسرين في واقت واحد .. سرقة القضية وسرقة القصيدة [email protected] رابط المقال على الفيس بوك