مع أن للصحافة في دورها وشكلها الإعلامي جوهريا أصولا قديمة يمكن إعادتها إلى تلك الوسائل البدائية في الحضارات الشرقية والغربية القديمة لنشر الخبر والإعلان الكتابي.. غير أن الماهية الحقيقية للصحافة، والأصول المهنية والأدبية لها لم تتبلور سوى بالتدريج، وفي سياق الثقافة الطباعية الحديثة، وبجانب الكتاب المطبوع، عملت الصحافة، وانتشار الجرائد والمجلات، على تجذير الأسس المتينة للثقافة البصرية الحديثة التي دشنتها الطباعة في العالم. بداية من أوروبا ظهرت أولى تجليات الصحافة في ألمانيا (1609م)، وفي باريس(1631م)، وفي روما (1668م) وفي إنجلترا (1702م)، وفي أمريكا ( 1703 م).. وتوالى انتشارها في العالم بوتيرة متفاوتة السرعة، وكان من الطبيعي أن تتعثر الصحافة في السياق العربي المحكوم بموقف تركيا التي تأخرت فيها الطباعة حتى القرن التاسع عشر، فظهرت أول صحيفة تركية عام(1831م). فجر الصحافة في العالم العربي: كظاهرة حديثة وافدة كان من الطبيعي أن تشهد الصحافة بأشكالها المختلفة في المرحلة المبكرة لدخولها إلى العالم العربي إشكالا مصطلحيا تجلت مظاهره في تعدد المصطلحات المعبرة عنها منذ مطلع القرن التاسع عشر، حيث أطلق عليها لفظ(الوقائع)، نسبة لصحيفة “الوقائع المصرية” الاسم الذي أطلقه عليها رفاعة الطهطاوي، كما أطلق عليها لفظ (غازته)، نسبة لقطعة من النقود كانت تباع به الصحيفة، وربما نسبة لأول صحيفة ظهرت في البندقية عام(1656م) بهذا الاسم، فصارت عامة، أما مصطلح “جرنال” فهو ترجمة عن الفرنسية أطلقه خليل الخوري على صحيفته “حديقة الأخبار” التي أنشأها في بيروت عام (1858م). ومع كون مصطلحات الصحيفة والمجلة والجريدة.. مشتقة من مفردات أصيلة في العربية، إلا أنها لم تستخدم بمعناها الحديث إلا في وقت متأخر، ويرجع الفضل في وضع مصطلح “صحيفة” إلى الشيخ “نجيب الحداد”( 1867 : 1899 م) صاحب صحيفة “لسان العرب”،(يومية، ثم اسبوعية) في مصر، وللكونت رشيد الدحداح اللبناني(1813 : 1889 م)، صاحب جريدة “برجيس باريس”، فشاع مصطلح “صحيفة” حتى تسمت به بعض الصحف، كصحيفة “الصحيفة”(1924م)في العراق، وبالمناسبة فالشيخ نجيب الحداد هو ابن أخت الشيخ إبراهيم اليازجي(1847 : 1906 م)، الذي كان أول من استعمل لفظ “مجلة” في الوطن العربي بمعناه الحديث، وذلك عندما أصدر مجلة “الطبيب”(1884م)، وشاع هو الآخر، حتى تسمت به بعض المجلات، كمجلة “المجلة” ، وفي المقابل يعود الفضل في وضع مصطلح “جريدة” للرائد الصحافي الكبير أحمد فارس الشدياق(1804 : 1887 م) صاحب جريدة “الجوائب” في القسطنطينية، وبجانب هذه المصطلحات التي أصبحت ثابتة استخدمت مصطلحات أخرى مثل “نشرة” و«الورقة الخبرية» و«الرسالة الخبرية» «أوراق الحوادث».. وكلها للدلالة على الصحف المعنية بالأخبار .. عمليا بدأت الصحافة العربية تطل أولا في مصر ب(الوقائع المصرية)(1828م) التي صدرت في عهد “محمد علي باشا”، قبل ظهور الصحافة في تركيا، وكانت تصدر ثلاث مرات في الأسبوع، أما في سوريا فكانت أولى جرائدها (حديقة الأخبار)( 1858م) أنشأها خليل الخوري، وفيما بعد صدرت في تونس(الرائد التونسي)(1860م) بنفس العام الذي صدرت فيه(جريدة الجوائب) لأحمد فارس الشدياق، ثم صدرت في دمشق جريدة (سورية الرسمية)(1865م)، ثم في مصر أيضا جريدة (وادي النيل) (1867م).. مع مطلع القرن العشرين كانت بعض الدول العربية قد قطعت شوطا مهما في العمل الصحفي مضمونا وفنّا، ومع أن هناك من يرى أن الصحافة العربية بدأت من العراق منذ العقد الثاني من القرن التاسع عشر، حينما اصدر الوالي داود باشا أول جريدة عربية في بغداد اسمها “جورنال عراق”( 1816م)،، باللغتين العربية والتركية، إلا أن الطباعة في العراق ظلت حتى مطلع القرن العشرين متعثرة ورديئة مقارنة ببلدان عربية كمصر والشام، عندما أصدر الأب “أنستاس الكرملي” مجلة “لغة العرب”،(1911م) متأسفا في مقدمتها على تعثر بغداد في الجوانب الفنية للطباعة وأدواتها ومعداتها( 1).. ومع ذلك كانت الطباعة في العراق حينها متقدمة كثيرا مقارنة مع بلدان عربية أخرى كدول الخليج وبعض بلدان شمال إفريقيا واليمن. صحافة المرأة والطفل في السياق العربي: هناك قصور كبير في استقصاء هذا الجانب من تاريخ الصحافة العربية المعنية بهذه الفئات المهمشة تقليديا، ومع ذلك فإن المعلومات المتوافرة تشير إلى بدايات مبكرة للصحافة المعنية بشئون الطفل والمرأة، وإن كان ذلك ينحصر في حدود مصر العربية، وفيما يتعلق بالمرأة فقد بدأت الأقلام النسوية وقضايا المرأة تسجل حضورا متناميا في الصحافة العربية العامة منذ فترة مبكرة، قبل أن تستقل الصحافة النسوية بإصداراتها في أواخر القرن التاسع عشر، وتسجل الريادة فيها للصحفية “هند نسيم” التي أنشأت في مصر “مجلة الفتاة”(1892م)، وهي أول مجلة نسائية في الوطن العربي، كما أصدرت “لويزا حبالين” مجلة “الفردوس” (1896م)في القاهرة، وأصدر “سليم سركيس” باسم “مريم مزهر، أو مظهر” مجلة “مرآة الحسناء”(1896م)، و«الكسندرة الخوري دي أفرينوه» مجلة “أنيس الجليس(1898م)، و«استير أزهري مويال» مجلة «العائلة» (1899م).. وعن صحافة الطفل يقال أن نشأت قبل عقود من عام(1830م)، التاريخ الذي يضعه بعضهم لصدور أول صحيفة للأطفال في العالم في فرنسا، بعدها انتشرت صحافة الأطفال لتصل إلى العالم العربي بداية بمصر عام(1870م) تاريخ صدور أول صحيفة للأطفال باللغة العربية، وفي عام (1893م) صدرت صحيفة “المدرسة”، وفي عام(1923م)، أصدرت (دار اللطائف) في القاهرة، مجلّة “الأولاد” المصوّرة، حاولت أن تتميّز بها بالطابع العربي المصري، الشرقي).. ( 1) كعدم توفر أحجام مختلفة من الورق أو الخطوط بما يناسب شكل المجلة، ورداءة الأحرف الطباعية، وقصور التنقيط والتشكيل .. وقد تمني في المقدمة أن تتم المعدات الفنية للطباعة في العراق (كما هي تامة في البلدان العربية التي هي أرقى من ديارنا) حسب قوله، انظر: مجلة لغة العرب، شهرية أدبية علمية تاريخية، الجزء الأول، السنة الأولى، تموز 1911م، صاحب الامتياز، الأب أنستاس الكرملي، أعيد طباعتها في مكتبة الجمهورية، بغداد، وزارة الإعلام، سلسلة كتب التراث، 1971م، المقدمة.. رابط المقال على الفيس بوك