كان الفتيح من أكثر الناس نبلاً وحباً، ومن أكثر الشعراء صفاوة وبسالة وعصامية وتلقائية، مثّل مدرسة أصيلة في عنفوان الرفض الشعبي لكل سياسات الزيف والقبح، وعنواناً فذاً لتجسيد عطاءات الإنسان اليمني الهائم بمعنى الأرض وقيمتها وجمالها النوعي. فيما استمر يغنّي بلسان البسطاء، مؤججاً وجدانهم القروي العميق، ومتشبثاً بالكينونة الجمعية السحيقة لليمنيين- الفلاحة- بالرغم من كل قيم التدمير والنكران والتشويه والانحطاط التي تمّت - ومازالت تتم من حولنا - في هذا السياق للأسف. ولقد كان «أبومطر» من أكثر الشعراء حنيناً إلى الوطن المستقبلي المدني العادل كما هو مأمول بالطبع، لكن بشكل خاص، ظل مشدوداً إلى الوطن المتسق تماماً بين المدينة والريف، الوطن الضامن لأبناء القرى- وهم الغالبية الكاسحة - بحيث لا يكونون تحت رحمة التمدّن الخادع، إضافة إلى اقتصاد القهر والاستغلال. لذلك لم يتوقف «عمنا الفتيح» لحظة عن عشق إنسان هذه البلاد التي استمرت تخذله مراراً. وهو كما عرفته المفتون الأروع باستدعاء ذاكرة الفلاحين الطيبين في قصائده الغنائية، معتبراً نسيان ملاحمهم غفلة لا تغتفر، كون الزراعة والمدرجات الزراعية الخلاقة - بالذات - عماد ازدهار اليمن القديم وأساس تكويننا الحضاري. والشاهد أن نضال الأستاذ محمد عبدالباري الفتيح اتصف بالوعي الطبقي العميق منحازاً إلى الفلاحين، كما ظل بجدارة عاطفية متفوقة وسخية يصب أحاسيس المطر الصعب في كل الأحلام الكبرى التي رآها تتقحل أمامه – جيلاً بعد آخر - راضخة لأحاسيس اليباس المنتشر على نحو فظيع في عقل الدولة وفي نفوس قطاع واسع من اليمنيين، كما رأينا ونرى. على أن معظم قصائده المُغناة كانت تقودني إلى خلاصة انهيار اليمني الذي فك ارتباطه بالأرض، خصوصاً في ظل عدم تنمية الدولة لهذا المسعى الأشد أهمية نحو إعادة نهضة تقاليده الإنتاجية الزاخرة التي صارت تندثر فقط. وبالتأكيد فإن اليمني حين يستحقر حقله أو يتعالى عليه، له أن يغادر ميزته التاريخية التي أبدع فيها، والتي صانته جيداً فيما مضى بمواجهة أنماط الاستلاب والتشيؤ، بمعنى أننا كيمنيين حين نترك الأرض نهباً للخراب، نتركنا كأفراد - كما نترك كياننا الاجتماعي والثقافي أيضاً - عرضة للتدمير النفسي والمعنوي المباشر. وعليه؛ ليس من نفع حقيقي في اكتشافنا كل حين أن حياتنا كيمنيين ستتبقى تمضي دون جدوى، مادمنا أصبحنا – هكذا - دون فعل فارق للنجاة من هذه الغيبوبة، أي دون الاستيعاب المشرّف والعظيم لضرورة الارتباط الموضوعي والحيوي - كما ينبغي - بالطين والجذور والسيل والسدود. باختصار.. سأفتقد «الفتيح» كثيراً، سأفتقد حميميته الإنسانية المشتهاة، وضحكته المزدهرة والمعاندة والخلابة تحديداً، كما سأفتقد قصائد غنائيات شجنه الأليف، وروحه النقية والفاضلة والجسورة وهي تقاوم - بكل شهامة ونزاهة ومثالية - مختلف أنواع مدخلات ومخرجات سياسات «الكُرب والغلائب والمصائب» التي لا أوجع ولا أقسى ولا أشنع منها من سياسات. [email protected] رابط المقال على الفيس بوك