مئات الآلاف، ربما هم الآن في طريق عودتهم إلى اليمن “مُرحّلين” من الشقيقة الكبرى تسبقهم أحزانهم وحسراتهم على وطن جعلهم عرضة للخضوع لقانون “الكفيل” الذي تعتبره الكثير من القوانين الدولية صورة حديثة من صور العبودية والامتنهان للكرامة الإنسانية. وعلى الرغم من خضوع المهاجرين اليمنيين لهذا القانون المجحف إلا أنهم وجدوا أنفسهم فجأة ضحية لقرار سياسي لم يقف طويلاً عند خصوصية الجغرافيا والتاريخ والاقتصاد والسياسة التي كتبت عنها ذات يوم في سياق الحديث عن تقدير الشقيقة الكبرى وهي تتفهم لعمق هذه العلاقة. لايجب أن نلوم الآخرين بقدر ما نوجه اللوم لبلادنا التي تعمق في الكثيرين من أبنائها الشعور بالغربة في ظل غياب البدائل عن العمل بشروط مذلة.! ذلك ماتحدث عنه محمد عبدالولي في «شيء اسمه الحنين» عندما لخص مشاعر المهاجرين اليمنيين في أصقاع الأرض على لسان احد أبطاله المهاجرين: “نحن اليمانيين مكتوب علينا أن نهاجر ونهاجر.. بلادنا ليست لنا” وكما امتدت ألآم الغربة على مساحة الوطن، امتدت كذلك معاناتها لتزاحم القلم في رحلاته البيضاء القادمة من أعماق روح المبدع اليمني الذي جسد تلك المعاناة حروفاً تشكو مرارة الاغتراب وحسرات تجسد الحنين إلى الوطن، ذلك الوطن الذي لامناص من الابتعاد عنه ولامفر من العودة إليه، .تلك هي فلسفة اليمانيين في مشارق الأرض ومغاربها.. يغادرون ذات يوم حاملين حلمهم في العودة ،يشيبون عند الفجر وكثيراً مايموتون غرباء. وقد حفل الأدب اليمني بالتعبير عن نماذج من معاناة اليمنيين و ربما كان الشعر لكلاسيكيته وأصالته في وجدان اليمني ،الفن الأدبي الأكثر تأثراً بموضوع الغربة، لأسبقيته وكثرة الشعراء ممن عرضوا معاناتهم على شكل قصائد شعرية كتبت بالفصحى والعامية على السواء ويأتي في طليعة الشعراء اليمنيين أبو الأحرار محمد محمود الزبيري والذي احتل موضوع الغربة والحنين إلى الوطن القسم الأكبر في أعماله الشعرية وأجمل قصائده كما هو الحال في (الخروج من اليمن السجن الكبير) و(صيحة البعث) و(صرخة النائمين) و(الحنين إلى الوطن).. حيث يقول الزبيري في إحدى تلك القصائد متحدثا عن آلام الغربة وقسوتها: آه ويح الغريب ماذا يقاسي من عذاب النوى وماذا يعاني كشفت لي غربتي سوأة الدن يا ولاحت هنّاتها لعياني كلما نلت لَذّةً أنذرتني فتلفّت خيفةً مِنْ زماني وإذا رُمْتُ بسمةً لاح مرأى وطني فاستفزّني ونهاني ليس في الأرض للغريب سوى الدمع ولا في السماء غير الأماني. كما نجد أن الشعر الشعبي من خلال أعلامه في اليمن قد جسد معاناة المهاجر اليمني وحنينه للوطن من خلال قصائد رائعة تناقلتها ألسن المهاجرين البسطاء وتردد صداها في أفئدتهم ليخلد بعضها من تحويلها إلى أغان لازال البعض يرددها رغم مرور سنوات طويلة على غنائها مثل رائعة الشاعر الكبير مطهر الارياني (يا الليلة البالة والليلة البال) التي غناها بصوته الشجي الفنان الراحل علي السمة، والقصيدة أو أغنية المهاجر كما أسماها الشاعر تصور معاناة اليمني في عهد الإمامة، تلك المعاناة التي تدفعه لمعاناة أكبر هي الهجرة، حيث القصيدة من أقصى نقطة في المعاناة والمتمثلة في الذكريات والحنين للوطن في بلاد الغربة، حيث يقول الشاعر متلبسا تلك المعاناة: والليلة العيد وأنا من بلادي بعيد ما في فؤادي للطوفان الأسى من مزيد قلبي بوادي (بنا) و(أبين)ووادي (زبيد) هايم، وجسمي أسير الغربة القاسية. ونختتم هذه الرحلة بين أوجاع الاغتراب بقول الشاعر الذي يرفض أن يقاسي من أوجاعها إنه الشاعر الشعبي عمر بامخرمه الذي يقول في إحدى قصائده: ما نبا الهند لو تمطر علينا بفضه ما نبا إلا الوطن لو عضنا الجوع. [email protected] رابط المقال على الفيس بوك