نشأ شاعرنا القدير محمد عبدالله بن شيهون (أبو فضل) في بيئة اجتماعية, تجل الشعر وتتفاخر بالشعراء, وهو حفيد شاعر, فقد كان جده لأبيه شاعراً مرموقاً, ومع ما له من أرث أسري مجيد, إلاَّ أنه لم يتسلق على سلم هذا الإرث ليقول لنا ها أنا ذا ابن فلان الفلاني, لأن الشعر ومجالات الإبداع الأخرى ليس ورثاً يتنازل عنه أو يوصي به السلف للخلف, وإنما يصدر عن موهبة, ولا ننكر تأثير مثل هذا الإرث في توجيه وصقل ملكة الإبداع الشعري وتنميتها لدى أي شاعر أو مبدع. وشاعرنا محمد عبدالله بن شيهون نشأ على ما تشربه من قيم آبائه وأجداده, وأضاف تعليمه الأساسي في مدرسة قعطبة وثقافته الذاتية المكتسبة بالاطلاع والتثقيف المستمرين وتجاربه الخاصة, كل ذلك أضاف الكثير إلى شعره الذي يحمل بصماته المميزة التي لا تخفى على من لديه ذائقة شعرية.
حين تعرفت على أولى أشعاره ومساجلاته التي تبادلها مع الشاعر المرحوم شائف الخالدي مطلع الثمانينات من القرن الماضي, وجدت نفسي منجذباً إليها بقوة, وكأنني في حضرة شاعر مجرب, خبر الشعر ونظمه باقتدار وله باع طويل فيه منذ وقت مبكر من حياته, حتى بلغ هذا الشأن وهذه المكانة الرفيعة بين أنداده ومعاصريه من فرسان الشعر الشعبي.. وأنه ربما أخفى قصائد البدايات وما تلالها وفضل عدم نشرها لغرض ما في نفسه, أو أنه يحتفظ فيها لينشرها في الوقت الذي يراه مناسبا.. هكذا كنت أعتقد وأذهب مذاهب شتى.. ولكنني كنت مخطئاً.. فالقصائد الرائعة التي فتنتي وفتنت كثيرين غيري ممن استمعنا إليها بصوت الفنان القدير حسين عبدالناصر, هي بذاتها البدايات الإبداعية لهذا الشاعر ولا شيء سواها,لسبب بسيط وهو أنه بدأ قول الشعر في سن متأخر, وبالتحديد حينما طوى الأربعين من عمره, وكأنما أنضج أشعاره على نار هادئة فجاء قطافها يانعاً بعيداً عن شطحات الشباب ونرجسيتهم.
وحين سألته عن الباعث لقول الشعر في هذه السن, وهل هناك إرهاصات أو محاولات سابقة, قال:" كنت أتذوق الشعر بنوعيه الفصيح والشعبي, فبقدر ما أعجبت بإيليا أبو ماضي وغيره من شعراء العربية منذ كنت طالباً في مدرسة قعطبة, أعجبت أيضاً بالشعر الشعبي, خاصة أشعار الخالدي وبالذات مساجلاته الشعرية مع الصنبحي وغيره, ولم يدر في خلدي أن أنظم القصائد أو حتى مجرد التفكير بذلك, طوال الأربعين عاماً الأولى من حياتي, ولذا لم تكن لي محاولات سابقة, وكل ما في الأمر إنني وجدت نفسي ذات يوم, وكنت حينها في مهجري بالسعودية, وفي موقف عائلي حزين, مضافاً إليه كآبة الغربة, وكأن أحد يجذبني من أذني ويدفعني دفعاً لقول الشعر ومن حينها بدأت نظم القوافي, وإلى اللحظة لا أنظم قصائدي إلاَّ عن معاناة أحسها أو أعيشها, فالشعر عندي هو معاناة " ..
هكذا ولدت أولى قصائده, ثمرة معاناة.. نعم.. لكنها قبل كل شيء نتاج موهبة ظلت حبيسة لعقود أربعة,حتى استوت وتفجرت بعد تمام مخاضها واكتمال نضجها, مثلها مثل الينابيع الكامنة في أعماق الأرض, لا ترى لها أثراً وقد تتفجر فجأة فتروي ما حولها وتكسيه الاخضرار والحياة اليانعة.. وهكذا شاعرنا.. لم يقرض الشعر إلاَّ حين زاره "شيطان الشعر" في تلك اللحظة, ليفجر مكامن الموهبة الحبيسة ويطلقها من إسارها, وشيطان الشعر, هو (الحليلة) باللهجة الشعبية, أو الهاجس أو الإلهام الشعري, أو بمعنى أدق ما نسميه (موهبة) وهي نعمة وهبة ربانية يهبها الله لمن يشاء من عباده وقت يشاء.
ومثلما كانت بدايته في لحظة انفعال شديد باعثه الحزن الذي دهمه في موقف معين وكابده بكل جوارحه, فأن قصائده لا تسلم له قيادها إلا في لحظة معاناة يجد فيها نفسه أسير هاجسه الشعري, ونستطيع القول أن شعره في مجمله نتاج معاناة ومكابدة, ومن هنا سر تأثيره القوي, وصدق عواطفه, وعمق رؤاه ومعانية التي تجلو ما غفل من أسرار الحياة وتستشرف بنبوءة الشاعر ما تخبئه الأيام.
إنه وبحق شاعر متميز, تجد في شعره شيئاً من شخصيته, من تفكيره, من مخزونه الثقافي, من القيم التي تشربها صغيراً ويعض عليها بالنواجذ في سلوكه وعلاقاته وفي شعره أيضا, وجل شعره لا يخلو من القيم التي يجلها ويتمثلها قولا وعملاً في حياته وفي علاقاته مع محيطه, وقد استطاع أن يخترق دواخل الناس ويغوص في أعماقهم, فبمجرد قراءة شعره تحس أنك في حضرة شيخ حكيم يملك أسرار الحكمة, أو شاعر يمتلك حكمة الشعر, ففي شعره فلسفة للحياة وقيمها الإنسانية التي حمل مشعلها كبار الفلاسفة والشعراء, ومن يعرف نشأته والإرث الثقافي الذي يتكئ عليه لا يستغرب هذا الاتزان وهذه الرصانة والحكمة وعمق المعنى في شعره.
إن الشاعر المجيد كالسحابة الممطرة تخصب كلماته في وجدان المتلقين, وشاعرنا يستنطق الكلمات فتنقاد لملكته الشعرية طوعا, فتغدو روائع منظومة, تحمل فرادة الشاعر المقتدر, تقرأ شعره فتجد فيه المتعة والفائدة, وتتوافر فيه صفة التجانس بين اللفظ والمعنى, فهو يحسن اختيار الألفاظ, وقد كان النقاد القدامى يقولون "الألفاظ أثواب المعاني" ولهم في هذا كل الحق, فالمعاني مثلها مثل الأشخاص تحتاج إلى أن تلبس من الألفاظ ما يناسب المقام وينسجم مع الموضوع, وشاعرنا برع في انتقاء ألفاظه, بحسب موقعها وصلتها بموضوعاته, فنجدها قوية وعنيفة في مواطن القوة والعنف, ورقيقة في موضع الرقة, وفي شعره عذوبة تكاد تُرشف وسلاسة تمتع النفس وتبهج القلب, وهو كشاعر مرهف الإحساس يتلبس المواقف, ويعبر عن عواطفه وبصور بديعة نعجب لجمالها الفني, حتى وإن كانت صوراً لمآسي ونكبات, كما في تناوله للأحداث الدموية في منعطفات مختلفة, داخل الوطن أو في محيطه العربي, وهو عنيف في المواقف التي لا تعرف غير لغة العنف والقوة, حسب رؤيته, كما نجده يحرث في الحزن حين يكابد آلام الغربة ويجتر الأشواق والحنين لمهد الصبا, حتى يكاد يبكينا. وهذا التلبس تحكمه العاطفة الشعرية المنطلقة من إسار العقل في لحظات الحب والكراهية والخوف والرضا والشوق والحنين غيرها من المفاهيم المتناقضة.
إن ما يميز قصائده هو موسيقاه الشعرية التي تشنف الأذن وتحرك الوجدان وتحدث فينا لذة عقلية وتأثير وجداني, ولا تقتصر الموسيقى على التزامه في معظم أشعاره بقافيتين للصدر والعجز وإنما في إيقاعات الألفاظ وإيحاءاتها وأنغامها التي تحدث فينا الإطراب. كما خرج عن الاستهلال التقليدي في قصائده الفصيحة والعامية, ونستثني من ذلك مساجلاته الشعرية التي وجد نفسه فيها مقيداً بالنمط التقليدي مجاراة لنظرائه من الشعراء الذين تبادل معهم المساجلات. وتحتل الصورة الشعرية مكاناً بارزاً في شعره, وكأن قصائده صورة صادقة أو رسم صامت, وتتعدد الصور الفنية في شعره فقد تأتي على شكل استعارة أو تشبيه أو دلالات ورموز لا تخفى. فالشعر لديه ليس مجرد كلمات مرصوصة أو أوزان منظومة تثير الجلبة أو الحماسة الآنية بلا طائل, بل إن الشعر لديه يزخر بالعواطف والصور الفنية والذوق الشعري السليم.
يميل الشاعر في قصائده إلى الفصيح, وهو ما يعكس ثقافته الدينية والأدبية, وهذا ما نجد شواهد له في عدد من قصائد الفصيح العصماء التي أجاد في سبكها, وتفوق فيها على قصائده العامية,رغم بعض الهنات النحوية التي تُغفر له, ونعذره فيها لأنه لم يدرس اللغة والصرف والنحو, ولو أنه درس ذلك لتخلص ببساطة من مثل هذه الهنات ولكان له شأن كبير بين شعراء الفصيح. وحتى لا يتهمني البعض بالمغالاة, أحيل القارئ إلى قصيدته الرائعة "الغريب اليمانيا", ولنمعن في هذه الأبيات المختارة منها: نسيم الصبا لو هب يوماً ذكرتها وسالت لذكراها دموع المآقيا
يهيم لها روحي إذا عسعس الدُّجى وتهفو لها حين البكُور فؤاديا
نذرتُ لها حبِّي بمحراب عزها وآليت أن أحيا لها العمر وافيا
وفي هجرها أفنيتُ عشرين حجة من العُمر لم يُحْسَبْنَ ضِمْنَ زمانيا
فصَيَّرتني كَهْلاً أسير بهامتي إلى الشيب مما رمت خالٍ وفاضيا
والقصيدة من بحر الطويل الذي يتناغم إيقاعه مع المشاعر الجياشة والصادقة, وهذا ما نجده وبنفس البحر وبقافية مشتركة ردفا ورويا وخروجا في كثير من عيون الشعر العربي قديمه وحديثه. ففى مرثية عبد يغوث لنفسه, لمَّا أسرته بنو تيم في يوم "الكُلاب" عندما وقعت الحرب بين بني تيم وقوم عبد يغوث في أيام الجاهلية, وكان فارسًا وشاعرًا يمانياً, فشدُّوا على لسانه نسعة خوفًا من أن يهجوهم قبل موته, فقال لهم: إنكم قاتلي ولا بُدّ, فدعوني أذمُّ أصحابي وأنوح على نفسي, فقالوا: إنك شاعر ونخاف أن تهجونا, فعقد لهم أن لا يفعل. فأطلقوا لسانه وأمهلوه حتى قال قصيدته المشهورة الرائعة,التي يقول فيها: ألا لا تَلوماني كَفى اللَومَ ما بِيا وَما لَكُما في اللَومِ خَيرٌ وَلا لِيا
أَبا كَرِبٍ و َالأَيهَمَينِ كِلَيهِما وَقَيساً بِأَعلى حَضرَ مَوتَ اليَمانِيا
وفيها يقول : وَتَضحَكُ مِنّي شَيخَةٌ عَبشَمِيَّةٌ كَأَن لَم تَرَ قَبلي أَسيراً يَمانِيا
وَقَد عَلِمَت عَرسي مُلَيكَةُ أَنَّني أنا اللَيثُ مَعدُوّاً عَلَيَّ وَعادِيا
ونجدها فى غزلية قيس بن الملوح (مجنون ليلى) في رائعته التي يقول مطلعها: يقولون ليلى بالعراق مريضةٌ فيا ليتني كنت الطبيب المداويا ! ونجدها في قصيدة مالك بن الريب التميمي التي يقول في مطلعها: أَلا لَيتَ شِعري هَل أَبيتَنَّ لَيلَةً بِجَنبِ الغَضا أُزجي القَلاصَ النَواجِيا
ونجدها فى "ليلة الوداع" للأديب الشاعر عباس محمود العقاد: أبُعدا نرجَّى أم نرجى تلاقيا كلا البعد و القربى يهيج ما بيا تعمدت إيراد هذه المقارنات, للتدليل على أن شاعرنا بن شيهون ينهل باقتدار من فيض اللغة والتراث بأساليب فنية تجعل من يقرأ قصيدته يظن أنه أمام أحد أساطين الشعر العربي. والآن إلى هذه الرائعة الشعرية لبن شيهون بعنوان الغريب اليمانيا قالها بعد أن أفنى عشرين عاما من عمره في مهجره بعيداً عن وطنه, وهي غير محسوبة من (زمانه) كما يقول. نشرت في جريدة "السياسة" الكويتية في عددها الصادر يوم 18 يونيو1989م
تذكرني الأيام ما كنتُ ناسيا وما ليس يُنسى تنتسيه اللياليا
وما صار مكشوفاً توارى لناظري وأضحت ترى عيناي ما كان خافيا
وإنْ مَرّ حظِّي مرة وأطاعني مراراً يمُرُّ من أمامي مجافيا
وكم ليلة من سعدها نمت هانئاً ومِنْ نحس أخرى بتُّ سهران باكيا
وكم نلت ما لا تشتهي النفس والذي له تشتهي نفسي وتهواه قاصيا