مقابل ما نعيشه تتساقط ممكنات حياة، عصير أحلام نمتصه. كنت في الصف الرابع، العاشرة من عمري، حين أهداني أبي كتاب “ألف ليلة وليلة”، صرت أتسلل الدرج قرب باب السقف، أسد الواقع بغشاء لذيذ، تعلمت كيف أغلق على نفسي صندوق الحكاية. بدأت خيالات كثيرة، تصافح العالم، نمت مثل أزهار لوتس في حدائق صينية. ذات يوم قررت الحفر قرب البيت، مقتنعاً أني سأعثر على كنز. منذ ذلك اليوم كنت أضع قدماً في السراب. كان ذلك في ثمانينيات القرن الماضي، لكنها ليست حكاية محددة، ليس حدثاً ذي أهمية. كانت فتاة تصغرني بعام أو أزيد، عيون أسيوية وخد كصينية من خزف. يفصل حيناً عنهم شارع رئيسي. كانت تشع بمرح، بشقاوة، لعله السبب الذي جعلنا نراها فتاة سوء. تفسير لم يكن يتناسب مع أعمارنا، ثم إن عدوى التجهم يصيب الصغار كأي مرض. هناك في الحياة مساحة لعب نخشى اكتشافها، لكن طفولتنا تبحث دائماً عن منطقة، تزدريها عادات الكبار الملوثة. الحارس الأخلاقي يشبه حارس المدرسة العجوز، كان يستخدم الحجارة ليمنعنا من الهرب، وبقليل من الريالات يفتح السلاسل المعقودة على الباب المشبك، بقفل ذهبي صدئ. الرشوة المقدمة للأخلاق ندعوها الزيف.. جاذبيتها لا تُفسر بكلمات محدودة. مرح خفي يتسكع بخبث في عينيها. كنا نراها في العادة تصطحب أخيها الأصغر الأسمر ذي الشعر المفروق، بملامح هندية، أما هي فتبدو قمحية، بمسحة اسيوية مهجنة. نشوة ترن في عينيها ببريق الذهب، حين ترى نظراتنا المتدفقة نحوها. نصادفها وهي في طريقها للبيت عند العشاء، تحمل كيس روتي وأشياء أخرى. دائماً ترتدي ثوباً قصيراً، ما إن تمر بجانبنا تسرع خطواتها، تشقص بزاوية عينيها، تبتسم بشقاوة، تدير بؤبؤي عينيها كألعاب ليل مضيئة، رغم سننا الصغيرة، كانت تفهم سر نظراتنا نحوها؛ كونها مسرح إعجاب لأحلامنا اليافعة، في مدينة تفسد الأحلام. كنا - جاري وأنا - نذهب لنجلس قرب بيتها، على الشارع الرئيسي، بجانب محل ستائر، في العادة تزدحم أقمشتها بنقوش فاقعة. عند الزقاق المحاذي لبيتهم كانت تلعب وأخوها الكرة، أقحمنا أنفسنا باللعبة. فضلت الجلوس على سور صغير يقطع الزقاق، تراقب، تصفق. وبين وقت وآخر، تطمئن لنظراتنا المختلسة لها. يبتسم ثغرها بمغزى لا يضفي سحراً على عمرها. سر جاذبيتها تلك البهجة، الخفة، الملفعة بخبث بريء.. بهجة تشبه صندوق حكاياتي. كانت ترتدي تنورة كريمية، قميص كستنائي، وشبشب تتحرك فيه قدمان نحيلتان. تنظر نحو الكرة، الأقدام، الوجوه المتقاطعة، تنافر الأشياء. إلى أي مدى كانت تدرك أدخنة التجهم التي تتصاعد من مباخر المدينة. مع أنها كانت مازالت مدينة أكثر مرحاً وطفولة. على الأقل لأنها كانت طفولتنا تختبئ بآلاف المخاوف التي تحاول خنقنا. ذات يوم خرجت بتنورة نوم سوداء معلقة عند كتفيها وتسقط إلى تحت الركبة قليلاً. أشار صديقي بذكورة صبيانية: شوف (.....) كانت في التاسعة من عمرها آنذاك، وكنت في الحادية عشرة. هل كنا نثأر من تصوراتنا العبيطة للحياة. منذ فترة لم أعد أرها. كنا محبين للأفلام الهندية، وتصورنا قصص حب، ممتلئة بالأغاني والرقص، بالأبطال ذوي الشعر المفروقة. كنت ذي شعر مفروق من النصف. في الواقع لم أكن محباً، بقدر شغفي بمرحها المراوغ. هل نسيت غمازتين في خديها. أو أنني ربما أتحدث عن وجهين متقاطعين، أحدهما لا ينتمي لها، ربما لأنني قرأت مؤخراً رواية، تحدثت عن امرأة بغمازتين. هل تهم ملامحها بصورة كلية، عينين أوزبكية، شعر فاحم مسترسل كحديقة ليل؟. تضاءل اهتمامي بها نتيجة اعتيادي عدم رؤيتها. كيف يمكن تجسيدها في كلمات، كانت من تلك النوع الخاطف، تحمل نظراتها معاني قابلة لعدة تأويلات، وإحدى تلك التأويلات ستكون أكثر قسوة مما يحتمل وجودها النسبي، لكن الكلمات تحمل دلالات أخرى هنا، خبث أو شر، ستعني ذلك النوع البريء من الخبث أو الشر. طريقة مشيها تحمل رقصة خفية، منتشية كآلهات الربيع. وبالنسبة لي، كانت قادرة لأن تتماهى مع الأحلام ببساطة بسمتها؛ علاقة بين زوايا شفتيها وعينيها، تفسح لسهوب الخفة رسم وجهها. إنها ليست ملامح فقط، كانت إيقاعاً خاطفاً كموسيقى قادرة على غسل مشاعرنا. رابط المقال على الفيس بوك