ظاهرة التاريخ في اليمن عجائبية، كما لو كانت حكاية تختلط فيها الاسطورة بالواقع. مع ذلك لا يبدو أن اليمني يمتلك حكاية واضحة عن بلده، فما هو اسطوري يستحوذ على واقعية النظرة. وهذا الجانب غير الواقعي ليس الجانب السلبي، لكن الاشكالية تكمن في سذاجة نظرتنا بصرف النظر عن واقعيتها من عدمه. وعلى العكس تصنع الاسطورة من الأرض حيزاً للخيال، أما اليمني فيعاني من اندثار اسطورته. وذات يوم أشرت لذلك وتحدث أحد الزملاء عن ضعف الحالة الروحانية لدى اليمني، كونها سبب لعدم وجود ميثولوجيا يمنية قديمة. مع ذلك كان اليمني يعبد آلهات، نعرف منها ثلاثة؛ الشمس (ذي بعدان) أي البعيد، والقمر (المقة) أو سين كما لدى حضرموت، والزهرة (عشتر أو عثتر) وهي آلهة الخصب السامية والمعروفة عشتار. وهذا يؤكد وجود صلات اشترك فيها الساميون القدماء، فتياميت آلهة الظلمة والجالسة على الماء المالح والتي هزمها الإله مردوخ، كما في الاسطورة البابلية، تبدو انها أصل كلمة “تهامة” والمعروفة كأرض لصيقة للبحر الاحمر. أدهشتني حينها حالة الانكار لوجود اسطورة لدى اليمني القديم، فمع وجود ديانات، أو إيمان، فثمة أساطير تفسر العالم. فكما يبدو لي، أن التماثيل القديمة لبعض الحيوانات كالوعل والثور، لم تكن اعتباطية لنقش حيوانات، بل كانت هي آلهات، وهو ما لم تؤكده النقوش المكتشفة حتى اليوم. فالاركيلوجيا في اليمن عرضة للضياع نتيجة النهب المنظم. ومع ذلك لا يمكن انكار أن اليمني بطبيعته أقل روحانية، وهو ما يجعل الجانب الشعري هزيلاً ومتقشفاً. وفي نقوش القربان التي قدمها أحد سادة حضرموت، لا نعثر على تلك الروحانية الشعرية، كما يتمثل في قرابين والاعطيات المقدمة للآلهة. مع ذلك يؤكد ذلك السيد انه سيهب آلهة “سين” قلبه وماله وكل ما يملك. ومهما كانت قناعتنا بضعف الجانب الروحاني لدى اليمني، ونزوعه النفعي ما يجعل عبادته وطقوسه متقشفة واحياناً يعوزها الطقس الشعري، إلا أن ذلك لا يلغي وجود الاسطورة في عالمه. وهذا الطابع الهزيل للروحانية سينعكس ببنية الأساطير وطابعها الشعري، بمعنى أنها ستكون بسيطة وعلمية. واذا كان الغرب يعتقد أن اليهودي هو أول من كسر حالة القربان القديمة التي كانت تضحي بالبشر وجعلها قرابين حيوانية، أي انه الانقلاب التوراتي على الدين القديم، فاليمني لم يكن يقدم البشر في طقوس قرابينه، بل يقدم قرباناً رمزياً، تمثال أو لوح حجري عليه عيون وأنف وفم. وشكل القربان لليمني القديم كان أول ثورة في مفهوم القربان، إذ ينقذ البشر ويجعل تضحيته رمزية عبر صورة تمثيلية. وهذا الحيز يكشف طبيعة أقل روحانية من طابع الايمان في بلاد الفرات ومصر والشام. فاليمني يعتقد لكنه أكثر نفعية من جعل البشر أضحية للرب، على الأقل هذا ما حدث في مرحلة من تاريخه. غير أن قليلين يدركون هذا المفهوم المغاير لعصر يضج بأضاحي بشرية. فالدين كان حاجة، مع ذلك لا نعرف الكثير عن ظواهر الدين في بلاد الجنوب القديمة. وعندما كان اليهودي التائه معرضاً للزوال او الضياع فيما بعد السبي، بدأ لم شتاته في كتاب العهد القديم. وتبدأ حكاية الشتات اليهودي خارج اورشليمه، لكن الشتات اليمني حكاية داخلية، وتبدو كامنة في روحه. فلا يتعلق الأمر بعقاب الرب الذي أغرق سدوم وعمورة، والذي لعن بابل. فاليمني يعرف انه ذات يوم كانت لديه بابل، وكان المسئول عن تجارة البخور، ليعطي المعابد سكينة العبادة عندما كانت الآلهات ترقص فوق الصلوات المتشحة بمحارق البخور، لكن اليمني تخلى عن ذاته عندما أنكر أكثر تفاصيل وجوده أهمية.. عندما كنت أقرأ كتب التاريخ، خصوصاً المتعلق بالعصور الوسطى، أي بعد دخول الإسلام، ما وجدته مجرد حكايات مختزلة عن الدول والملوك. قليل من التفاصيل. واحدة من التفاصيل التي شعرت بالامتنان لها، حكاية سيد من آل نجاح في زبيد، كان مغرماً بالنساء وكان مغوياً.. وعندما إراد اغواء إحدى السيدات، والتي يذكرها التاريخ بأنها سيدة فاضلة، فقررت أن تخلص نساء المدينة من شره، وافقت وأرسلت له بأن يأتيها، فوضعت سماً في خرقة نظيفة، وعندما استقبلته في سريرها وأنهى معاشرته أعطته الخرقة المسمومة ليمسح ذكره، فخر صريعاً.. فالتاريخ اليمني أيضاً يتسامح مع تضحية الجسد..هكذا تبد لي واحدة من أكثر اشكالياتنا، دائماً تنتهك التفاصيل، فاليمني يعيش في لعنة العموميات، فحياته وقيمه وأفكاره تختصرها عموميات فاسدة، فدائماً لدى اليمني لحد تؤولإاليه أحلامه، ودائماً هناك فرصة شعرية تائهة. فالشتات داخلي وليس ضياعاً في الجغرافيا. رابط المقال على الفيس بوك