المشاعر الدينية تغتصب واقعنا ..أليس كذلك؟ سأبدو للوهلة الأولى، بالنسبة للبعض، متحاملاً بل وخارجاً عن النص الديني الذي تحول إلى حامل تتلاعب فيه أهواء ومصالح،غير اني أرفض ككاتب أن تتخذ عباراتي أي أشكال توجيه للقارئ. لا بد أن تضع مسافة تحترم كل قارئ محتمل، باعتباره شخصاً قادراً على التفكير أكثر منه مستودع يتم تلقينه، كما تحاول أشكال الاستبداد المنتظمة، وتلك الممتلئة بيقين لاهوتي أن تمارسه لمحو العقل. فأنا اتنازع مع أي قسر فكري يمارس عنف المسلمات، أو يحاول تأطيرنا في وجوده، باعتباره الحق الكامل لأي فكرة تتعلق بالدين ومنها للسياسة والحياة العامة وحتى التفكير والابداع.. قبل أيام لمحت شعارات على لافتات قماشية تقول إن الشريعة والقرآن فوق الدستور والقانون. وهو شعار لا يستطيع معظمنا مواجهته أو التفكير به، لأنه يوجه مدفعية الدين غير القابلة للمساءلة أو النقاش فيها.. الكثير منا تنطلي عليه الحيلة، بل تبدأ مشاعره باستهلاك نفسها وتندفع في دخان تشوش عاطفي لقصة قديمة؛ الجلاد الذي يعاقبنا بإيماننا.. ثمة شعارات بعضها يقول “لا للعلمانية” أو “لا للكوتا”، فالاشكالية بتلك الشعارات تتعلق بمصالح تتخفى أو طموح لممارسة تسلطه ونفوذه من وراء هالة الدين والقيم، وبالطبع سنرى الواقع، خارج منظومة القيم التي تريد جماعات ما وضع نفسها كحامي لها، متهالكة ومرعبة. لنرى الموقف المتخاذل من الاعتداءات اليومية على مصالح المواطنين العامة، الكهرباء وأبسط الخدمات، موقفها من القتل اليومي الذي يلاحق جنودنا ومواطنينا في كل مكان. كيف صار دم اليمني بلا قيمة، ومازالت تلك تتحدث أنها الحامية او المرجعية، وتتحدث عن الخطر الذي يتعرض له ديننا، بينما غير معنية بقيم تنخر وجودنا كالسوس، حتى ان تلك المحاذير المزعومة تصور نفسها كطريق لممارسات قمعية لا تتوقف تحت شعار حماية الدين. لدى أحد اصدقائي مقولة مهمة، وهو أن الاسلام لا خوف عليه، لأنه “محمي بإرادة الله” لكن اليمنيين من هم في خطر. مقولة يشكلها وعي عميق بالواقع اليمني اليوم.. فالمشاعر الدينية تستهلك عقل اليمني وتستنفد طاقته في بحر من الصراعات خارج أي مصلحة حقيقية له. ينطلي على معظمنا الشعار الذي ترفعه تلك الجماعات أو من تسمي نفسها جماعات من أجل الايمان والتوحيد والوحدة والقيم، وكأنها وصية على كل ما يتعلق بذلك، ويمكن ان تتحول كذلك رقيباً يتعرض لذواتنا ودواخلنا بمجاهر معتمة، وعليه تبني حكمها على كل شيء وتصور شرعية لموت شخص أو فتك بجماعة او تحرم كل شيء. .في الواقع أكبر عدو لتلك الوصايات هو العقل والمرح. ويستطيع كثيرون محدودون الذكاء التأكد من يقف وراء تلك الشعارات والجماعة الخفية. فهي تحفز قلق دائم على الدين والأخلاق، لتعتم شواهد قمعها وجرائمها. ربما انجرفت في معمعة خطابها. ألا يتحول هذا البوق المنفر للخطر المزعوم، إلى شكل من الغاء الواقع واستبداله بآخر وهمي ولا وجود له، لكنها كذلك تستوعبه وتجعل منه فعلاً وتنخرط منها فانتازيا سوداء مرعبة.. فالتضليل يشمل اشغالنا عن القتل، عن تحفيز الطائفية، وجعلنا مجاميع مقتتلة، لأنها تعتاش على ذلك، تراهن على معركتها الخرافية وتشد المجتمع في فخ صراخها.. ومؤخراً عندما صرح عبدالمجيد الزنداني على وجوب دفع الخُمس، كان يريد تأكيد أين تبدأ المعركة اليوم، ومع أن الروح الوطنية والمدنية في اليمن رخوة وفاسدة، فهذا يؤكد كيف تبدأ تلك الجماعات تصفية حساباتها. أو ترتيب خانات النزاع.. فالحوثي كذلك يشكل عدواً مناسباً لمشروع يشبهه.. يقول نيتشة في رغبته لتحفيز الانسان الأعلى أو المتفوق، على أهمية اختيار عدو نستطيع معه نكون أنداداً نحو الانسان الأعلى. وعلى العكس عندما نختار اعداء في الوحل، فإننا نسقط معهم إلى هاويتهم، لكن البعض يفضل أن يكون عدوه يتشابه معه.. اصحاب المشاريع الضيقة والمتشددة تعرف أن معركتها تكون خاسرة أمام مشروع وطني قادر على تنظيم نفسه، لذا تحاول الفتك بأية ممكنات صغيرة لأي وهج وطني أو حداثي. عدوه الحقيقي ان نفهم الواقع وتبني مشروع يمكننا به اجتياز كبواتنا ومخاطرنا، فهي كمشاريع ضيقة تأقلمت وتعايشت مع الكبوات والكوارث، بل وصارت تتغذى من بقاءها وتمددها، لذا كل اشكال التقسيم أهون من مصلحة يمنية مشتركة. يعاني اليمن أولاً من فقر تسببت به أزمات وفساد، وتكاد البلد ان تنهار في حروب داخلية، لن أتحدث فقط عن كمية السلاح المخيفة، بل كذلك عن حجم التشظي. مؤخراً ظهرت خارطة جديدة لليمن، جماعات تتحدث عن أقليم الجند، وأخرى عن ابناء المناطق الوسطى. هكذا يتم تشويش الصوت الوطني، بترهات المشاريع الصغيرة. واحدة من الشعارات المضحكة، رأيتها على جدار صحيفة تقول: تعز تستعيد هويتها. أصوات جوفاء وعقيمة اعتقد انها على الاغلب غير مدركة، وربما غير مبالية، تمارس تضليل يفسح الطريق لخارطة طوائف تتقاتل، وتترك الجسد اليمني تحت رحمة التمزق. هل لا ندرك، او اننا مستسلمون لشره الواقع بكل اعبائه ومخاوفه، واحياناً منساقون لحس انتهازي يخلط علينا خيارات كثيرة. على الأقل تم اخراس المدينة التي شكلت ملتقى لأمل وطني. لدى تلك الجماعات بكل قوتها وعسكرتها مخاوف من أدنى همسة تصوب الهدف الأكثر واقعية لليمني ومصلحته، كما انها تستعد لمعاركها القادمة وقد تأكد لها أن اليمن صوت تم اطفاؤه وحشرجته في أبواق هلامية بلا ملامح. هكذا تستعد اليمن في معركتها القادمة منساقة لتلك الاشكال غير الواضحة، لخرافاتها القديمة. نتحول جنوب، شمال، شرق، وغرب، نتحول اطيافاً من الصراخ العقائدي. .هكذا تقف اليمن اليوم فوق اشباح أو اطياف نسميها رجالات سياسة وقادة دينيين، او مشائخ قبلية.. اخبروني هل ثارت في تلك الجماعات غيرة على القيم، بينما تعرضت امرأة لاعتداء مسلحين من قبائل الجوف؟ في الواقع سنحتاج لمنظف هائل نعقم فيه أرضنا من سوس هائل يؤكد قدرته على التطور والتبدل في اي شكل ولون، غير أنه ينخر أرضنا. السوس هي ايضاً كائنات صغيرة لا يمكن رؤيتها بالعين المجردة، وفي اليمن، تتخفى تلك الاطياف او السوس تارة في الدين، وربما بالحقوق، لكنها في الواقع سوس التقسيمات الطائفية والمناطقية. رابط المقال على الفيس بوك