التوجه نحو مخاطبة العقل مسألة جوهرية لها بعد حساس قد ينسي الإنسان جوعه ويبحث عن لقمة تسده، ولكن أن يبحث عن معلومة يدافع بها عن رأيه، حقه، مواطنته؛ أمر ليس سهلاً ويضرب في عمق التباين والحقيقة النسبية من كل صاحب وجهة نظر؛ ذلك يأتي رداً على الإساءة إلى الوطنية أو التقليل أو التهميش أو التسطيح لرأي الآخر، يحدث رد فعل كبير وتعد العدة لتراكم معتاد ومتضاد لا يلبث أن يشعل معركة ثقافية تكون أحد لِبن التباين والاختلاف، شيئاً فشيئاً يرتبط بالثوابت قد يكون ذلك بداية البحث عن الهوية السابقة واسترجاعها مهما تكلّف ذلك تضخيمها، إلباسها أدواراً أكبر؛ وهي ثقافة المنتصر..!!. لعلنا بعد الوحدة وحرب 94م وتداعياتها لمسنا خطاباً سياسياً وإعلامياً حاول تارة تبسيط تاريخ المنهزم، طمسه، تصغيره، إعادة صياغته؛ وهي تداعيات تترك أثراً سلبياً وضاراً وصل اليوم على شكل تنافر، كراهية، رد البحث في تاريخ الآخر لعلنا في إطار الاحتفاء بثورة 14 أكتوبر وهي تكمل 50 عاماً لابد من وقفة وطنية جادة تحترم هذه الثورة وتزيل عنها محاولة التهميش والتبسيط والتبعية والابتعاد عن جلد الذات والتصغير لها، فثورة 14 أكتوبر هي ثورة عظيمة تميّزت بمشاركات سياسية متنوّعة وطنية في الجنوب لكل أطراف العمل السياسي بصرف النظر عن هوية وخلفية المشارك «جنوبي شمالي» ولعل من سماتها تلك القوى المجتمعية المختلفة من رجال ونساء وفي مختلف مراحل العمر والانتماءات، إنها نظرت ليمنية هذا المشارك «شمال جنوب شرق غرب وسط» لعل معاناتها وحالات التحارب التي شهدتها رغم وصولها ليومي الجلاء 27 نوفمبر 67 والاستقلال 30 نوفمبر 1967م شكّلت نقطة ضعف أنقصت من الفرح العارم للتعجيل بخروج الانجليز. برغم هذه الإرهاصات وما تلاها من إرهاصات أخرى داخلية في إطار تنظيم الجبهة القومية آنذاك في استبعاد صف واسع من قيادة التنظيم؛ ولعل التطرُّف الثوري وحداثة التجربة في قيادة الدولة المنشودة، ولا ننسى البيئة الخارجية المتأثرة بالصف وتداعيات الحرب الباردة. ولعل معاناة الثورة الرديفة سبتمبر كانت معاناة أخرى لها لما بعد حصار السبعين في صنعاء والمجيء بقيادات للجمهورية الفتية في تصالح بين الجمهوريين والملكيين وخروج الرئيس عبدالله السلال رحمه الله من صنعاء أو بالأصح بقاؤه في الخارج، وبقي الحال غير مستقر وما تبعه في السبعينيات والحال نفسه في الجنوب اعتقال وتحييد ما سمي بعناصر اليمين وأحداث 22 يونيو؛ ولكن دون إيجابية ما لبثت أن ظهرت بتطوير آليات العمل الحزبي في تنظيم الجبهة القومية إلى التنظيم السياسي الموحّد، إلى قيام الحزب الاشتراكي اليمني كنتاج لتوحيد فصائل العمل الوطني الديمقراطي، الاتحاد الشعبي الديمقراطي، حزب الطليعة الشعبي، والتنظيم السياسي، الجبهة القومية، وقد شهدت تلك الفترة نشاطاً حزبياً ملموساً والاطلاع على التجارب الاشتراكية سواء في دول المعسكر الاشتراكي أم المنظومة الاشتراكية، حيث شهد الجانب الصحي والتعليمي توسعاً ونشراً للخدمات المجانية؛ وهو أمر افتقده البسطاء في ظل دولة الوحدة، وحيث يفقد المرء مصلحته يحن إلى الماضي أياً كان قاسياً؛ فهو الأفضل كون الأمان الذي وفّره واحترام الحق العام والثروة الوطنية كانت سيوفاً أقضت مضاجع اليمنيين جنوباً؛ فليس هذا هو حلمهم بالوحدة، ولم تأتِ الوحدة لتجلب الأمن والسيطرة على الثروة والممتلكات التي هي هبة الحاضر لأجيال المستقبل، وماذا نترك لهم حروباً، تقاسماً، فقراً، تاريخاً من البسط والفيد وتحت بساط العدالة والسلم الاجتماعي المفقود، تلك الثقافة والممارسة التي بعد أن أكملت السيناريو الأول في الشمال هاهي ترى الجنوب مغنماً بعد 94م وكأنها رسمت مقدّماته التي لربما تعجّل بقيام الوحدة بنفس السرعة التي تمّت لغرض في نفس يعقوب من بعض القيادات الحاكمة في الجنوب والتي غابت عنها الفطنة وبُعد الرؤيا ولظروف ذاتية لها. كان ذهول الوطنيين كبيراً بحجم الوطن وحالة من التفرُّد بالسلطة والمال والوظيفة العامة والتهميش ودور بائس للإعلام بمختلف أشكاله كمحاولة لتزيين المنتصر تارة بإعادة صياغة التاريخ؛ والنيل من المنهزم، وإذا به شعب من التاريخ والحياة العامة وتارة أخرى بمحاولة تضخيم ما تم، وإرساء حالة من ثقافة التفضل وتحسين الأوضاع التنموية؛ بتجاهل أن تهميش الإنسان كان خطيئة لا تُغتفر؛ تعامل الغالبية معها برد فعل أكثر سلبية دون تأنٍّ، وهكذا ضُرب بعرض الحائط ب«الوحدة» في وقت كان إصلاح الأمور كفيلاً بالتسامح والتلاقي، وللأسف تفرّق قوم سبأ ولم يُؤخذ بمبدأ إسلامي هو "العفو عند المقدرة" وبالتالي يستوعب الطرف المنتصر الخطورة التي استقوى فيها بالسلطة والقوة العسكرية وبالاستقطاب السياسي والأمني، وبالمقابل توسّعت رقعة المقاومة في المحافظات الجنوبية وتعزّزت حالة الكراهية التي توسّعت بؤرتها عند القاعدة الشعبية بدءاً من حالة الفكاهة والدعابة السياسية إلى المسيرات والاعتصامات في حالة من التعصُّب وعدم القراءة الوطنية المسؤولة للواقع والتاريخ، والانطلاق مما تحقّق في تغيير أقطاب النظام السابق عبر المبادرة الخليجية وآليتها المزمّنة وذلك الإجماع الوطني لأطراف الخلاف اليمني على الجنوح نحو السلم وخاصة المؤتمر الوطني للحوار الذي شكل أعضاؤه وعضواته فسيفساء التركيبة السياسية والمجتمعية تحت مظلة الحوار الذي خاضه اليمنيون كثيراً في مراحل سياسية مختلفة معاصرة وواصلوا العملية السياسية. وما نأمله اليوم هو أن تستشعر أقطاب العملية السياسية المسؤولية، وألا تمارس دورين رسمي ومبطّن، تحرّض فيه وتعرقل الولوج إلى واقع أفضل بعيداً عن التمترُّس والإيعاز والتحريض، فيكفينا حالة الفقر والتسوّل، إذا ما أدركنا أن السير في العملية التنموية سيكون متعثراً ضعيفاً؛ بل متعرقلاً وبقدرة إدراك أطراف العملية السياسية ذلك في إطار المسؤولية والتسامح والحرص على الحق العام والثروات الوطنية وحمايتها من النصب والاحتيال؛ كون ذلك يؤرّق ويقلق ويلصق العار بأنه في العام ال51 و50 لثورتي سبتمبر وأكتوبر مازال هناك من يحاول ابتزاز الثورتين والنيل من مكاسبهما. رابط المقال على الفيس بوك