لماذا يلجأ الناس إلى تزييف الواقع؟ وكيف يروجون ما زيفوه وينجحون في إقناع الناس به؟ هذان التساؤلان متصلان بقضية مركبة من المعرفة والسلوك, يتداخل فيها علوم متنوعة بين النفس والاجتماع, وبين اللغة والفكر, وبين الوسائل والغايات, فالتزييف عملية مركبة من الواقع والخيال, تسعى إلى رسم صورة غير حقيقية لواقع ما, بهدف إقناع الناس بهذه الصورة لتحقيق مصالح خاصة لصنّاع الزيف ومروجيه في المجتمع. لا يخلو كل تزييف من صدق, فهو يبدأ من صورة صادقة يبني عليها صورة مختلفة تماماً عن الأصل وإن كانت مطابقة له في الشكل, وأصدق مثال للتزييف أوراق النقد «العملات», لكن التزييف هو فن يكاد أن يكون حصرياً في المجال السياسي, وتحديداً في الخطاب السياسي وأدواته الاتصالية المتبادلة بين قوى الصراع على السلطة والحكم, لأن هذه القوى تتحرج من التصريح صدقاً بمصالحها الخاصة من هذا الصراع, فتلجأ لتزييف هذه المصالح في صور زائفة من العقائد أو الأخلاق أو مصالح الناس والأوطان. يطغى التزييف السياسي على أنظمة الحكم المستبدة, ففي الأنظمة الديمقراطية, يقتصر التزييف على الدعاية الانتخابية, بينما يكون هذا التزييف وسيلة وحيدة للأنظمة التسلطية, حين يخرج إلى الناس متستراً بالدين أو الوطنية أو الأخلاق, أو بها جميعاً, وساتراً بأحدها أو كلها حقيقة دوافعه التلسطية وغاياته المحددة بالسلطة وشهواتها الطامعة بالاستفراد والاستحواذ. يرتكز التزييف السياسي على قاعدة مزدوجة, فهي من جهة تصنع صورة مشوهة للخصم وفي الوجه الآخر صورة مجملة للذات, فإذا كان التزييف السياسي مرتكزاً على الدين فإن صورته تجسد في وجه منها الخصم عدواً للدين, و في الآخر تجسد الذات مؤمناً نقياً في قمة الإيمان والإخلاص, وعلى أساس الوطنية يكون التزييف صورة مركبة من التناقض بين الوطني الأمين والخائن العميل, ومثل هذا على أساس الأخلاق، حيث يتناقض الحميد والذميم منها في صورة مزيفة عن الذات والخصم بين قوى الصراع على السلطة وغنائمها. التزييف يعتمد في نجاحه على الجهل والتجهيل, وعلى الغموض والتشويه, مستغلاً غياب الحقيقة, واختفاء البيان أو تزوير الواقع وخلط الوقائع وكتمان المعلوم من حقائقها, وأصدق الصور المجسدة للتزييف السياسي هي الصور السائدة في الواقع الراهن والتي تستخدم الدين والأخلاق ستاراً لمصالحها غير الشرعية وساتراً لأطماعها, في صراعها الشرس ضد الدولة ومشروع بنائها. [email protected]