رغم نجاح النظام السوفيتي خلال ما يقارب السبعين عاما فقط في تحويل المجتمع من إقطاعي متخلف إلى آخر صناعي متقدم، وصل ذروته بإطلاق المركبة الفضائية (سبوتنيك) إلى الفضاء العام 1951م، إلا انه لم يكن كذلك على صعيد المنظومة الإدارية، فالدولة التي قاربت مساحتها ربع مساحة العالم، اتسمت بمركزية شديدة، حيث لم تعد أطرافها المترامية وتخومها البعيدة إلا أن تكون صدى أجوف لما يتفاعل في المركز المقدس (الكرملين)...وهو ما أدى لاحقا وبطريقة دراماتيكية إلى انهيار المنظومة الاشتراكية، قبل أن تبلغ مطامحها في خلق الشيوعية العالمية.. وبُعيد الانهيار المدوي أصاب التغيير أكثر من خمسين دولة أخذت تنحو باتجاه التخلي عن القبضة الرهيبة للمركزية لصالح منح الهيئات المحلية والإقليمية سلطات واسعة في اتخاذ القرار وإدارة شؤونها المحلية. المركزية ما عادت مقبولة، فهنالك الآن 28 دولة بسكانها المتجاوزين ل ( 40) % من سكان العالم، تدين باللامركزية السياسية ( الفيدرالية)، وتتزايد باطراد الدول التي تتوسل اللامركزية الإدارية، بمستوياتها المختلفة وأنماطها المتعددة، فيما لم يتبق غير ثلاث دول تُدار بنظام المركزية منها دولة الفاتيكان في قلب العاصمة الايطالية روما، وسان مارينو الرابضة ضمن جبال ايطاليا أيضا، وهما من اقل الدول مساحة وسكانا.. وحتى الدول التي لم تبلغ شأوا بعيدا في اللامركزية، فأقله أنها تعتمد نمط عدم التركيز الإداري إذ يتم تفويض كثير من صلاحيات المركز إلى هيئات محلية. الدولة المركزية ماتت أو تكاد وهي الآن تعيش خريف عمرها، غير أن وعيها المتجسد في الوصاية والاستبداد الفردي يظل حاضرا بشدة.. والشاهد: تجربتا العراق والسودان، فرغم أنه كان يتوقع لهما الانتقال إلى نظام فيدرالي فاعل، يضمن للهيئات المحلية حقها من السلطة والثروة، جرى الالتفاف على هكذا مشروعاً في العراق بإعادة إنتاج معركة (الجمل) وحرب داحس والغبراء تحت سطوة أيديولوجية قائمة على مركزية الدولة ومفهوم الراعي والرعية، وفي السودان بازدياد المركزية والهيمنة الطاغية على السلطة والثروة، عوضا عن التحول إلى الحكم الإقليمي اللامركزي وتطبيق اتفاقية (نيفاشا) المبرمة العام 2005م، لتكون النتيجة الطبيعية، انفصال جنوب السودان عن شماله. الحال ذاته في اليمن التي انتهجت اللامركزية الإدارية منذ أكثر من 13 عاما ، إلا أن عدم توافر إرادة سياسية حينها لتحقيقها واقعا، أفقدها زخمها وشعبيتها، وأضحت الأصوات أكثر حدة في المطالبة بالتحول إلى اللامركزية السياسية (الفيدرالية) كنتاج منطقي لاستحالة العودة إلى الوراء وتصحيح تجربة اللامركزية الإدارية، في حين أن محاولات النخبة التقليدية العسكرية الاستمرار في نهج المركزية الشديدة، وعدم نشر السلطة والثروة، لن ينتج غير متوالية أزمات وتمردات... فمن الحماقة تكرار ذات التجربة بذات الشروط بأمل الوصول إلى نتائج مغايرة .. كما مقولة (ألبرت إنشتاين) الشهيرة. [email protected] رابط المقال على الفيس بوك