ما يجري تداوله حالياً من تسريبات إعلامية بشأن التوصل إلى صيغة لقيام دولة اتحادية تعتمد نظام اللامركزية الإدارية، تعمد أساسا إلى الإيحاء بأن بعض مخرجات الحوار لن تعدو أن تكون صياغات جاهزة في تجاوز فاضح للإرادة الشعبية المتأتية من مؤتمر الحوار.. وتحاول أيضا التسويق لمفاهيم ملتبسة غامضة تؤثر حتماً على مستقبل البلاد، كونها تتناقض مع الفهم المتجذر في الأدبيات السياسية لأشكال الدول وطبيعة نظمها السياسية والإدارية. الفيدرالية أو اللامركزية السياسية رديفة الدولة الاتحادية، ولا تطبق إلا فيها، فلا وجود لدولة اتحادية بدون فيدرالية، بخلاف اللامركزية الإدارية التي يمكن اعتمادها في الدولة الموحدة البسيطة، والدولة الاتحادية (الفيدرالية) على حد سواء، إذ إن المستويات الحكومية الأدنى من الإقليم في الدولة الاتحادية تدار بأسلوب اللامركزية الإدارية بمنحها صلاحيات إدارية وتنفيذية، فيما تقتصر السلطات السياسية والإدارية والقضائية على الأقاليم أو الولايات. والمزاوجة الغريبة بين دولة اتحادية تعتمد نظام اللامركزية الإدارية ربما كانت محاولة لإمساك العصا من المنتصف ارضاءً لأنصار الفيدرالية وأنصار اللامركزية الإدارية معاً، لتنشأ دولة اتحادية من عدة أقاليم، لكن دونما سلطات تشريعية وتنفيذية وقضائية وهو جوهر النظام الفيدرالي أو اللامركزية السياسية، فقط سيقتصر الأمر على منحها صلاحيات إدارية تنفيذية. تخوفات البعض من الفيدرالية، بمبرر أنها قد تؤدي إلى الانفصال، في واقع ضعف الدولة المركزية، ربما كانت إفادة تحجب وراءها حقيقة سعي النخبة التقليدية المسيطرة لإنتاج نظام هجين يعمد إلى الاستمرار بحالة المركزية الشديدة مع تغليفها بلامركزية جوفاء ليس إلا تماما كما دأب النظام السابق خوفاً من فقدان مصالحها الذاتية فيما لو جرى نشر السلطة وتوزيع الثروة.. مثلما أن هكذا مساعي لا تعدو أن تكون اعتسافاً للواقع وتجاوزا فاضحا له.. فرغم أن اللامركزية الإدارية شهدت نجاحات مذهلة في عديد دول إلا أن السياق السياسي في اليمن تجاوزها ولم تعد مقبولة لعديد أطراف سياسية لن ترضى بغير خيار الفيدرالية، كونها البديل الممكن لخيار الخطط التمزيقية خاصةً بعد بروز اعتلالات عميقة أبرزها قضية الحراك الجنوبي كمحدد تتضاءل معه فرص قيام الدولة القادمة على اللامركزية الإدارية، بعدما فقدت زخمها بعد أكثر من 12 عاماً من الأخذ بها، وظلت ديكورية شكلانية أفرغت تماما من مضمونها. المركزية الشديدة كانت الباعث الأول للتمدد السريع للحركة الحوثية وهي ذاتها أكسبت الحراك الجنوبي زخماً ضافياً، فيما أطراف بعينها لم تعِ الدرس بعد وتسعى إلى ديمومتها حفاظاً على مصالحها الذاتية، وهي جهود لو أثمرت، لأنتجت مزيد تمزق وتشتت، ولأصبحت التجزئة واقعا لا طموحا مأمولا.. والشاهد القريب: انفصال بنغلادش عن الباكستان في النصف الثاني من القرن العشرين بُعيد استقلال باكستان عن الهند بسنوات معدودة، حينما كان الإصرار الساذج للنخبة الحاكمة فيها على المركزية الشديدة دافعاً للفراق الأبدي بين جناحي الدولة الوليدة. [email protected] رابط المقال على الفيس بوك