القوى الاستعلائية التي تجعل نفسها في كفّة والشعب في كفة أخرى ؛ تجدها دائمًا حريصة على إفساد أية صيغة للتصالح يمكن أن تجبرها على التكلس والانزواء والبقاء في مربع واضح الحدود والمعالم, إذ المعروف أن الحوار الوطني الشامل سيخرج بمبادئ وموجهات دستورية يتم ترجمتها إلى عقد اجتماعي يذيب كل الامتيازات والفئوية والطائفية والمذهبية والجهوية من أجل الحفاظ على يمن موحد ومتعايش ومستقر, وبالتالي فلن يدع هذا الدستور فرصة لتلك القوى التي تسعى إلى الهيمنة الكاملة على هذا الشعب باسم الحق الإلهي (أنصار الله) أو باسم الحق الفقهي (أنصار الشريعة), فسواءٌ في رأيي من يتعالى باحتكاره نصرة الله, معتقدًا أن الآخرين يخذلونه, ومن يتعالى باحتكاره نصرة الشريعة الإسلامية, معتقدًا أن الآخرين يخذلونها. لذلك فليس مستغربًا اليوم أن نجد صنفي هذه القوى الاحتكارية للصواب والحقيقة والإيمان والجنّة تستشعر الخطر على نفسها ومستقبل وجودها, وهي – في صنفها الأول - تصر على ممارسة السياسة بدون كيان أو مسمى سياسي, بل تسعى إلى الحكم بصيغة مذهبية وتحت مسميات وشعارات استعلائية تعكس ما تضمره هذه القوى من رفض للآخر اليمني بشكل عام والانتقاص منه إلى حد التنكيل به وإراقة دمه, وفي صنفها الثاني تصر على الأمر نفسه, أي تصر على الوصول إلى الحكم والسيطرة على مقاليد الشعوب بصيغة مذهبية ولا تتورع من أن تتخذ العنف والإرهاب طريقاً إلى تحقيق ذلك.. وكلا الصنفين يسعى اليوم لإعاقة نجاح الحوار الوطني, ف(أنصار الله) يشنون حروباً في (دماج) وفي (الرضمة) وفي (عمران) يسقط فيها الأبرياء بين قتيل وجريح, و(أنصار الشريعة) يشنون حروباً مثلها على أبناء شبوة وحضرموت وأبين والبيضاء بعمليات إرهابية يسقط فيها الأبرياء بين قتيل وجريح. فبئس النصرة يا هؤلاء .. أين أنتم من طُهر الإسلام وصفائه ونقائه وتسامحه؟ الواقع أن كلا الصنفين من الأنصار الجُدد يعاني تضخماً في الأنا ينسيهم أن لله وللشريعة أنصاراً ليس من الضروري أن يكونوا في صفوفهم, وعليهم أن يفهموا جميعهم أن رُّب عجوز أمية في شعب من الشعاب تصلي لربها ولا تحسن غير الشهادتين وتألم لمرض شاتها أو بقرتها وتعطف على من حولها؛ إيمانها خير من إيمان تلك اللحى والعمائم التي تستحل الدماء وتجتهد في تأويل النصوص أو تستحضر الخلاف بين علي ومعاوية بحثاً عن مخارج تسوغ لها قتل الآخر المخالف. وكلا الصنفين أيضاً يتناسى أن اليمنيين كانوا جميعاً أنصاراً لله ولرسوله ولشريعته, ولا فرق في ذلك بين هاشمي وقحطاني, أو بين شافعي وحنبلي وزيدي, فالقبائل اليمنية آزرت الرسول ونصرته في المدينةالمنورة وفي اليمن, وظلوا على نهجهم في عصور الفتوحات, وقبورهم في كثير من بقاع الأرض لا تزال شاهدة عليهم. بالأمس القريب استعرض (أنصار الشريعة) قوتهم بالهجوم على المعسكرات والنقاط الأمنية في ظل سبات الجهات الأمنية وغرائب أداء قياداتها, واليوم يستعرض الحوثيون قوتهم ويتنمرون على السلفيين في منطقة (دماج) في ظل صمت الجهات المعنية عن القيام بواجباتها الدستورية وحماية أبناء الشعب من اعتداء القوي على الضعيف, اعتداء من يمتلك السلاح الثقيل ليهدد به أمن الوطن؛ على من لا يمتلك غير السلاح الخفيف ليدافع به عن نفسه .. ومن سيحميك إذا كانت الجهات المعنية قد اكتفت بأن تلعب دور (الوسيط) أو بالعامية التعزية (الفضولي) لا دور المهيمن الذي يُسكت الجميع ويفرض عليهم ما يريد بقوة القانون والدستور والمبادرة الخليجية والإرادة الشعبية والقوة العسكرية؟! المعروف أن السلفيين في صعدة عدو فكري وعقائدي للحوثيين, لكن هل ينبغي للحوثي أن يرفع السلاح في وجه هذا العدو الفكري والخصم المذهبي؟ أم أن الأسلم أن يواجه الفكر بالفكر, أي بالأداة نفسها التي هوجم بها؟ ومن هو على الحق سيتحصل على الغلبة والتمكين إن عاجلاً أو آجلاً. وإذا قال الحوثيون: إن محافظتهم صعدة أصبحت مأوى لأناس من جنسيات مختلفة يدخلون الوطن بطرق غير شرعية, فبالتأكيد أن لهم الحق في أن يقولوا ذلك, لكن عليهم أن يتذكروا أننا في دولة اسمها (الجمهورية اليمنية) هي المسؤولة عن معالجة هذه المشكلة, وهي المسؤولة دستورياً عن الوقوف أمام أية مخاطر تهدد أبناء الوطن, بل إذا ثبت أن هؤلاء الأجانب وجودهم في (دماج) غير قانوني أو أنهم فعلوا ما يستحقون به العقاب؛ فهل يجوز للحوثيين أن يرفعوا السلاح في وجوههم ويقتلوهم وينكّلوا بهم؟ هل يعطي الدستور والقانون والأعراف والقانون الدولي حق استخدام العنف لجماعة معينة أم تعطيه للدولة التي تخولها الدساتير باحتكار حق استعمال العنف ضد أي إنسان أو جماعة تهدد أمن الوطن واستقراره؟ إن حقائق ما يجري وأحداثه واضحة ولا لبس فيها, فمثلما تخوض الجماعات الإرهابية صراعاً جدلياً مع الدولة, فإن جماعة الحوثي هي الأخرى تخوض صراعاً سياسياً جدلياً مع الدولة, لكنها تتخذ من الصراع المذهبي مع السلفيين متنفساً أو مجالاً لاستعراض القوة أمام العدو الأساس (الدولة), لإيصال الرسائل التي تريد من هذا العدو أن يفهمها. لكن هذا لا يُنسينا أن الحوثيين (أنصار الله) أكثر ذكاءً من الإرهابيين (أنصار الشريعة), ذلك أن تقاطع مشروع الجماعة الحوثية مع مشروع الدولة مدعوم بغطاء (الانسجام مع الفكر المدني الليبرالي أو العلماني) بينما (أنصار الشريعة) واضحون وبلا غطاء الحليف الأيديولوجي .. وهذا يشير إلى أن ليبرالية الحوثيين ومدنيتهم ليست إلا ديكوراً لا ينبغي أن ينخدع به بعد الآن كل ذي عقل. [email protected] رابط المقال على الفيس بوك