لا أدري لماذا لم نعد نطيق أبداً رؤية شخص مدني يحمل سلاحاً في مدينة تعز, لاسيما إذا كان هذا المسلّح يستقل دراجة نارية, وعليه مِئزر لا يجاوز حدود الركبة..!!. قبل بضع سنوات كنا أحياناً نرى أمثال هؤلاء في مشاهد مستهجنة, لكنها لم تكن تشعرنا بمثل هذا الخوف الغريب والإحساس باستفزازهم الصارخ لهوية تعز المدنية والثقافية. دعونا نقل: إن نفسية الإنسان التعزي تغيرت بفعل عدة مؤثرات نقلت موقفه من مرحلة اللا مبالاة تجاه هذه المظاهر إلى مرحلة الاستياء والرفض, بحيث أصبح يشمئز كل الاشمئزاز لرؤية "الكلاشينكوف" أو حزام الرصاص الذي يلفّه المسلّحون حول خواصرهم. من المؤكد أن هناك نموّاً في الوعي لدى أبناء هذه المدينة المثقفة بطبيعتها, وإن لم تكن هناك مؤسسات نشطة تعمل على تكريس هذا الوعي وتنميته, فالمواطن في عالم اليوم يكوّن قناعاته بنفسه, يعالج أخطاءه بنفسه, يُقبل على ما هو إيجابي بنفسه, مستفيداً في ذلك من التجارب الذاتية والتجارب الناجزة التي تقدّمها له اختياراته من الأعمال والبرامج التلفزيونية في الفضائيات العربية, وكذا انتقاءاته من المواقف المتنوعة التي ينقلها الإعلام المحلي, وهو انتقاء يجريه المواطن بتوجيه من ميوله ورغباته وطموحاته وهمومه, وقد كان من نتائج هذا الوعي وصول كثيرين الناس في المدن والأرياف إلى قناعة بعبثية إطلاق النار في الأعراس لخطورته وتسبّبه بمآسٍ اكتوت بها أسر كثيرة, وإن كانت الألعاب النارية تسعى اليوم لتحل محل الرصاص وتتشابه معها في الخطورة. لكن يمكن القول: إن مجيء الثورة الشبابية السلمية بسلاح «الصدور العارية» كان له كبير التأثير في نفسيات كثير من الناس, خصوصًا أبناء تعز, فقد كشف هذا الأسلوب الثوري في التعامل قوة الإنسان المعاصر وعظمته بغير سلاح, وبدا حمل السلاح سلوكاً همجياً عفى عليه الزمن؛ علاوةً على كونه مظهراً غير حضاري يكرّس عشوائية أجهزة الدولة وضعفها وتغييب حكم النظام والقانون, وهو ما ثار من أجله الناس. ذلك الفعل الشبابي قضى على جملة مفاهيم ظلّت عدة سنوات تحاول إقناع الناس بأهمية حيازة السلاح وشراء الذخيرة لصناعة الهيبة التي تحمي بها حقاً أو تواجه باطلاً، وها نحن اليوم نصل إلى مرحلة العداء لأي استعراضات مسلّحة تخدش سكون هذه المدينة, بل إننا أصبحنا نضيق حتى بمجرد التخاطب مع شخص مسلّح, وإن كان ظريفًا وعلى قدر عالٍ من الأخلاق وصفاء النفس. ليس لنا إلا نلقي باللائمة اليوم على الجهات المعنية التي أسهم ضعفها وقصور أدائها في انتشار المسلّحين الذين لا ندري لماذا أكثرهم حريصون على ركوب الدراجات النارية..؟!. سنلقي باللائمة عليها حين نجد الحملات الأمنية عاجزة عن تطبيق القانون والنظام على جميع المسلّحين بلا استثناء, وكأن قوانينا ما وجدت إلا لتطبق على البسطاء الذين ليس لهم إلا أن يخضعوا للنظام ويدفعوا ثمن مخالفاتهم, أما النافذون والمشائخ والفتوّات؛ فهم فوق القانون وفوق الجميع, ولا تطالهم أية ملاحقات أو عقوبات. بإمكان مسؤولي تعز أن يجعلوها مدينة نموذجية للمدن اليمنية كلها, لاسيما أنها العاصمة الثقافية للجمهورية اليمنية؛ وذلك بأن يُقنِعوا الجميع من خلال الحزم الأمني وتفعيل دور القضاء واتخاذ الإجراءات المشدّدة على الدوام بأن تعز مدينة استثنائية لا تقبل ولا يقبل أهلها أن يدخلها مدني مسلّح مهما كانت صفته. أيها المتمنطقون بالسلاح, المقتحمون به سكون المدينة المسالمة: لا تُكرهونا على مشاهدتكم ليل نهار, تظنون أنفسكم من مشاة البحرية الأمريكية, فأنتم تعلمون جيدًا أن السلاح في كل بيت يمني, ولابد أن يكون بحوزة تعز نصيب كبير من 60 مليون قطعة سلاح موجودة في اليمن, لكن تعلّموا أن تعز مدينة لم تُخلق للاستعراض، ولا تتكلم بلغة السلاح, وإنما بلغة الثقافة والمعرفة والحوار, وهي المدينة التي علّمت كل المحافظات, وقادت مسيرة التثقيف والتوعية في اليمن منذ مطلع العصر الحديث. ملحق لابد منه: وأنا في طريقي لإرسال هذا المقال عبر البريد الإلكتروني إلى هذه الصحيفة؛ واجهت مسلّحاً أشعث أغبر ذا "طمرين" لو أنكر عليه أحد لأمطره بوابل من الرصاص, ويا للمناسبة؛ فقد كان أيضًا يقود دراجة نارية..!! في شارع ضيّق كانت تملؤه إحدى المركبات المارة، وحين كنتُ أنا مترجلاً حاولت المرور بجانب هذه المركبة، فحاول هذا المسلّح أن يمر بدراجته أيضاً بجانب المركبة في لحظة مروري, وكأنه يريدني في تلك اللحظة أن أطير بجناحين أو يُخسف بي الأرض ليمر هو بلا عرقلة, فكان أن اضطرني إلى الاحتشاء تحت قلاّب إحدى الشاحنة الواقفة على الرصيف ريثما يمر, غير أنني لم أسلم نهائياً من أذاه لضيق المسافة, فقد التصق بي مقود دراجته وسلّمني الله من شرّه, وهكذا تيقّنت أن المسلّحين إذا لم تصبك إحدى رصاصاتهم؛ تصبك دراجاتهم، وتأكد لي أيضًا أن الدراجة المخالفة وغير المرقّمة لا تقل خطورة - على الأمن والسلامة المجتمعية - عن السلاح؛ لاسيما أن الدراجة اليوم بريد المسلّحين, وأداة مفضّلة في ارتكاب البعض لجرائم القتل والاغتيالات. هذا هو الكلام الذي اضطررت لإضافته إلى هذه المقالة قبل أن أرسلها إلى الصحيفة للنشر, وبذلك أؤكد للجميع أن محلات بيع القماش الأحمر ربما يكاد مخزونها ينفد والحملة تنتهي؛ والمسلّحون لم يثر فيهم أي شيء مما يجري اليوم من حملات ومبادرات شعبية لإخلاء تعز من المسلّحين. فما رأيكم يا قيادات تعز الأمنية والمدنية..؟!. [email protected] رابط المقال على الفيس بوك