عند أي مفارقة تقف الشعوب عندما تجد نفسها قد عجزت عن إنتاج مشروعها السياسي وهي في دوامة التصارعات من أجل السلطة؟؟ حالة مثل هذه لا تخلق سوى وضعية التصدع في كيان الأمة، حيث تضعها عند حاجز الانغلاق التام على ذاتها وتفرز لديها حلقات من التصادم مع “الأنا” حيث تتقزم طموحات الشعب من أعلى درجات الإرادة إلى أدنى مستويات العبث والمراهنات على الفردية، وفي هذا ما يضرب وحدة التماسك الداخلي لديها. فالسلطة تصبح هنا ليست إدارة مراكز الدولة بل هي قبضة الجريمة التي تحول حقوق المواطنة إلى قفص اتهام. وفي مجتمعات تصبح فيه الجريمة السلطوية أداة تسير مقاليد الدولة، تمسخ أبسط مطالب المواطن في منحه بعضاً ما يستحق من الحاكم، وهنا تكون المطالب نوعاً من كسر هيبة الدولة والخروج عن قاعدة “السكوت من ذهب” بينما المواطن يكون قد وصل في حياته إلى درجة تحت الرماد من فقدان القيمة، ولهذا تظل إشكالية القهر السياسي متواصلة حتى مع سقوط أي نظام قمعي، لأن العلة ليست في مراحل التغيير، بل في آلية العمل السياسي التي دائماً ما تنظر إلى قيادة الدولة عبر منظار السلطة العسكرية والبوليسية ومراكز الأمن. عند حدود هذه القوة تبدأ عملية قيام السلطة، لأن مساحة هيبة الدولة لا تمتد إلا بقدر ما تصل إليها وسائل القمع الحاكمة، غير أن هناك حالة أخرى من حالات قمع السلطة للمواطن تستخدمها الدولة بجر الوطن والشعب نحو المزيد من الانكسارات، وهي حالة غياب الدولة الفاعلة عن المجتمع. في هذا النوع من القمع السلطوي، لا تبدو فيه الدولة هي من يضرب خروج المواطن عن طاعة الحاكم، بل تترك الدولة عملية قمع هذا التمرد لفئات الشعب تتناحر فيما بينها، وذلك هو أخطر أشكال القمع الذي تخلقه السلطة من داخل أزمات المجتمع، وكأن بخروج الدولة من مركز تحمل المسؤولية تجاه البلاد، حالة عقاب تمارس ضد الشعب، دعوا التمرد وكم هو صعب على أمة تجد نفسها بعد التمرد بدون برامج عمل سياسي بعد مراكز الاتزان إلى مسارات المعادلات السياسية الصحيحة. إن الفراغ الذي يصاحب كل هزة سياسية تسقط نظاماً وتصنع آخر، توجد مساحات من التخلخل في بنية الدولة وهذا يدل على أن مسار السلطة يعود إلى مربع الجريمة حتى يقبض على زمام الأمور، أما أخطر ما في تعاقب المراحل المتصارعة هو توسع دوائرها مع تقدم مسارات الزمن، فالجريمة السياسية دائماً ما تمتد مسافاتها كلما تقدمت الفترات، فهي كما تبدأ بقتل الأفراد في صمت، تنتهي إلى قتل شعب أمام العالم. وليس من مبرر لما يجري سوى الحفاظ على السلطة، بينما نجد أبسط حضور لهذه السلطة يتهاوى بفعل غيابها عن الحياة. ولكن لماذا تعيد الشعوب التي طالبت بالحرية إنتاج أزمتها مع شكل الحكم ؟؟ ربما لأنها لا تملك مقدرة فن إدارة الدولة، وهذه خاصية ربما لا تتمتع بها كل الشعوب، وهذا بحد ذاته يشكل مأزقاً تعاني منه الأمة لعقود من الزمن وهي تجر من صراع إلى صراع، ومن أزمة إلى أزمة ، وكأن الحلول لم تعد حاضرة في حياة هذه الشعوب التي أدمنت التناحرات على أجسادها النازفة. أما الجريمة لم تعد من فعل السلطة في هذه الحالة، فالشعب دوره في تصاعد هذا النوع من وسائل التدمير ، فالسلاح كما هو يسقط السلطة كذلك هو يحرق الأمة، وكم هو قاتل عندما تجد نفسها الأمة وقد جعلت من السلاح مركزها الأول في إدارة الصراع السياسي مع الطرف الآخر، فهي تكون قد أخذت من السلطة طابع الجريمة الذي يحدد نوعية التعامل مع الغير. ربما كانت الصراعات بكل أشكالها المختلفة في مجتمعاتنا هي من خلق هذا المرض المزمن عند الفرد والجماعة حول الأساليب المغيرة لشكل الدولة، فغياب حقوق المواطنة في أبسط صورها والاستحواذ على كل حاجة من قبل السلطة، وتراكم فترات القهر، قد خلف في عمق نفسية المواطن أعلى درجات الحقد على الدولة وعندما تأتي ساعات الانتقام يصبح التدمير هو الهدف الأهم، فالسلطة يجب أن تسقط ،ومعها يكون سقوط الدولة، وبذلك ندخل في مراحل جديدة من التناحر، ومن يملك القوة هو من يصنع السلطة، غير أن هذه الحالة دائماً ما تنتهي إلى مسار الوضعية السابقة، فهو يقود إلى الانهيار وحلقات من التصارع تمتد بقدر ما تمتد الجراح النازفة من جسد هذا الوطن، وبقدر ما تحمل رياح الخراب من تشرد وضياع للمواطن الذي يكتشف أكذوبة أمن وسلامة الوطن. فالسلطة عندما تخسر أمنها، تكون ضريبة الدم هي الثمن الذي يدفعه المواطن، فالسياسة هنا ، اما أن تظل سلطة الجريمة هي من يحكم، واما الخراب التام الذي يجعل من صورة الشيطان قديس. أن تتعلم الشعوب كيف تحكم نفسها، تلك هي المعضلة التي لم تدركها بعد مجتمعاتنا، فنحن مازلنا في شارع الهتافات والمظاهرات والشعارات، أما فن إدارة العملية السياسية، ربما تمر علينا فترات من الزمن حتى ندرك أن صنع القادة أول مراحله التعليم في المدارس منذ الابتدائية ، فالحاكم الجاهل لا تنتجه سوى أمة غابت المعرفة عن عقلها، وغاب معها حضورها بين الحضارات. رابط المقال على الفيس بوك