أفراد أو جماعات وحتى الحكومات والشعوب التي تظن أن السلاح هو من يحسم الخلافات السياسية تذهب بها هذه الانحرافات العقلية نحو الهاوية. وكل التجارب السياسية المختلفة فيما بينها، والتي تحكمت بقياداتها عقول توقف مفهومها للعمل السياسي عند دائرة الحسم المسلح، لم تترك غير ركام من الخراب والأزمات وتحولت شعوبها ما بين قتيل وجريح ومشرد ومفقود، وتلك نهاية لا يمكن الخروج من دائرتها المغلقة بمجرد إعلان وقف الحرب. كذلك التطرف والإرهاب في عقلية الجماعات أو في حياة الشعوب، لا يصنف إلا كحالة تدميرية تدخلها الفردية أو الأمة عندما تفقد البوصلة التي تقودها نحو الاتجاه المعاكس في الرؤية وحالات الإرهاب والتطرف هي مستوى من العجز. يصيب عقل الأمة عندما يتسيد فيها المنطق الاعوج الذي يدعي أنه صاحب الحق المطلق في الرأي. ووضعية مثل هذه، إن فرضت كمشروع سياسي، ليست من وسائل عندها غير العنف الذي يحول مساحة الخلاف في الرؤية إلى ساحة تناحر بين كل أطراف الخلاف السياسي حتى يسقط الكل دون الحسم النهائي لأن النهاية تكون صورة لعجز الجميع. ولنا في الشعوب والدول التي جعلت من السلاح قائدها الأوحد في حل الخلاف السياسي، خير دليل على ما جنت على حالها من تدمير وذهبت في نفوس أهلها في محرقة القتل المجاني الذي يجعل دماء الكل أرخص من مياه المجاري فلا مستقبل لجماعة أو شعب جعل منطق السلاح سيد موقفه إلا في القبور. وربما من كل التجارب القاتلة التي هدت دول وأحرقت أمم، مازال هناك من يظن أن السلاح هو من يصنع الزعامة والحسم السياسي، في بعض الأحيان قد تمرر هذه الأنواع من الأزمات وتحقق بعض المكاسب، وتصبح من الأعراف السائدة عند رجل العمل السياسي، وحتى المواطن الذي يرى بهذا النوع من إدارة الصراعات حقيقة مطلقة في القضاء على الخصم وطرده إلى زوايا الظل من اللعبة السياسية، أن تحولات مفاتيح اللعبة حسب مراحل الصراع لا تحفظ الشكل الثابت لها، ودائماً ما تذهب في نهاية الأمر إلى أزمة الاحتراف الداخلي والذي يكشف للقادة والزعماء، بأنهم قد ذهبوا ضحية لعبة أكبر منهم، وهذا غالباً ما يكون في حالة النزع الأخير. إن الشعوب التي تفتح أراضيها لدخول آلة الدمار والقتل هي أول من يفقد الكرامة والإنسانية وتتحول إلى أرقام وبيانات رسمية يقرأها العالم كل يوم كما يقرأ الكلمات المتقاطعة ثم تسقط من الذاكرة، لأن العالم قد اعتاد على هذا الموت الجماعي عند هذه الشعوب، فهي مجرد أعداد في سجلات الضحايا، أما عن الجانب الإنساني في هذا الأمر، لا يخرج عن إرسال بعض المساعدات، ربما كان نصيب الحيوانات في الغرب أفضل منها من حيث الاهتمام والرعاية. فهذه الصومال وما عصفت بها من أحوال الحرب وهي التي كانت قبل ذلك أرض اللبن والعسل والسودان وافغانستان والعراق وما يجري في أكثر من مكان وفي دول مختلفة والتي أصبحت الحروب جزءاً من ملامحها، فهي تعيد انتاج صورها المشوهة في كل مشروع سياسي تسعى لفرضه على الواقع، وكل مراهنات القهر السلطوي تحولت هي أيضاً إلى كساح قيادي لا يعزز سوى فرض نفسه على الغير، وهذه حالة لا تنتج غير مزيد من الانقسام والتصارع عند الشعوب وتذهب بها نحو التصدع الذي يحول أرضية المجتمع إلى حالات متصارعة لم تعد تمتلك القدرة على التواصل مع الغير. في لحظات فقدان المنطق و الرؤية عند شعب يظن أن السلاح سوف يحسم خلافاته الداخلية لصالح فئة أو جماعات يكون هذا الشعب قد دخل مرحلة الانتحار، لأن الحرب أن اشعلتها مجموعة اندلاعها تصبح المصير الذي يسيطر على رقاب الكل، لذلك لا نجد في الحروب الأهلية قيادة واحدة أو دائمة، لأنها تصبح سنوات من الاحتراف وفترات من التدمير وكلما توسعت مسافات الدم و القتل لم يسلم منها أحد حتى لو كان في أقوى الحصون. لقد دفعت الشعوب التي دخلت محرقة الحروب الأهلية في حاضرها ما أحرق كل ما يمكن ان يجد لها مساحة في الأمل القادم، وذلك ما يوجد عندها حالة من التوحش النفسي، ويخلق عندها حالة مرضية تجعلها لا ترى الحياة إلا بلون الدم، وفي السلاح الحق الوحيد في التخاطب مع الغير، وذلك الجنون قد يظل ملازماً لها لعقود من الزمن تصبح مسألة عودتها إلى الحياة الإنسانية من الصعوبات الكبرى. عندما تتحرر الشعوب من هذا النوع من التفكير، تنقل عقلياتها السياسية من ساحات التصارع إلى نظام ومؤسسات المجتمع المدني، وحين تمتلك هذا الشكل من المدنية تتراجع عقلية التناحر إلى أقصى درجات الظل حتى تغيب تماماً عن العقل السياسي، ويصبح التحاور في مؤسسات المجتمع المدني، هو الفيصل في صنع مصير الشعب، عندها لا يكون المستقبل في حفرة الجريمة، بل في المدرسة والمصنع والجامعة والمزرعة وكل ما يخدم الناس، لأن المنصب السياسي قد أصبح وظيفة وليس غنيمة.