من الأزمات القاتلة التي تقع فيها بعض الشعوب عندما تسقط في دوامات الإلغاء ونفي الآخر، حالة عدم التصالح مع النفس عندها تصبح مخنوقة في دائرة من الاحتراق والتدمير الذي لا يقبل سوى ما يراه من منظوره، وهي حالة إن طالت تتحول إلى ركيزة في أعمالها ونوعية علاقتها مع الغير، والتي لا تتفق حتى مع أبسط معاني الحوار مع الطرف المختلف معها. فالأمة إن ملكت معاني وعيها تتجاوز مآزق قد تذهب إليها في لحظات العمى السياسي، وإن خرجت من هذا التقوقع دلت على رؤية تتخطى بها مهالك بالخروج منها يكتب لها فترات ميلاد مغايرة عن زمن العواصف. فالحروب التي تدخل بها الشعوب وتتناحر من أجلها، لا توجد الانتصار المطلق، بقدر ما توجد تراكمات من أحقاد ورغبة في الانتقام والقهر، وأخطر أنواع هذا المرض، قهر إنسانية الإنسان والنزول به إلى مرتبة تجعله يرى بالحرب التي تحرق أرضه نوعاً من أشكال القوة التي يجب أن تتسيد على ما يحكم الأمور. في عملية تسطح للوعي مثل هذه ، ماذا يبقى للأمة من أدران إن هي رأت بالنار والدم البوصلة المحددة لمسار الأمور. عندما يظن شعب أن لغة السلاح سوف تجيب عن كل سؤال، يدخل في متاهات الانفجارات ودخانها المتصاعد فلا يسمع ولا يرى، وعقل يفقد نور البصيرة وقدرة التعرف على معاني العبارات يكون حاجزاً من العجز قد رفع بينه وبين العالم، وأغلقت منافذ العبور للهواء الذي يغذي خلايا الدماغ بدفعات جديدة من الدماء. أما أن تدرك الشعوب بأن الوعي هو من يحدد لها مناحي الحياة، وما الخلاف في الأفكار سوى حالة من مستويات الارتقاء في حضارتها، تكون قد غسلت عقلها من حضانة جرثومة مثل تلك، لأن الوعي إن احتل منزلة المرشد في الأمة، لا تحتاج إلى مساحات من المياه الركدة تنمي فيها مثل هذه العناصر القاتلة والتي أول ما تقتل جسد الأمة القائم على تجاور أهدافها ومصالحها. والشعوب كما هي قادرة على تجاوز أخطائها والتعلم منها، قد تمر في حقبة تجتر نفس الغلطات والأزمات وهذا يدل ان مستوى التفكير لديها قد وصل عند درجة الصفر، ولكن عقيدة رفض الاعتراف بالعجز والفشل وامتلاك الحق المطلق، ذلك ما يجعلها ترى باستعادة الأزمة نوعاً من إحياء لوجه من هويتها، والشعور في الحضور عند الصراعات، فهي لو خرجت من هذا المربع سقط كيانها في فرض الهيمنة القائمة على قوة الدم. في هذه الوضعية تصبح حقوق الحريات ووجود القانون ومعرفة الواجبات وتحديد أي مستوى يقف كل فرد في المجتمع من المراهنات التي تدخل المجتمع في صدام مع نفسه، لأن هذا سوف يدفع الأمور المتوافقة إلى حالات الانقسام والخروج من تحت قبة التسلط. فالشعوب إن وعت بعض هذا يكون أمامها خير التعامل مع المطالب عند مدارك الأزمات فالتسرع في أخذ الحق السياسي في بعض الأحيان يحول الحق إلى أزمة وقد تذهب به رياح المنافسات إلى حدود الانفجار، وفي ذلك وضع تصبح السيطرة على نيران اشتعاله من الأمور المستحيلة، وهنا نجد أن الحالة لم تغير في واقع الأمر سوى الخروج من مربع مأزوم إلى مساحة محترقة. عند هذا الحال نجد الأمة تسعى إلى تأجيج الصراع كي يحسم لصالح فئة وفي نفس الوقت تطلب المهادنة حتى تجد لها مساحة من الأمان، وهذا الشرخ في عمق نفسيتها لا يولد عند أفرادها غير تصاعد مستوى الحقد والرغبة في محو الغير والانفراد، وذلك ما يديم مراحل التناحر حتى يذهب الكل في هذه الخديعة التي أوجدت الأمة بها نفسها تحت وهم نحن أو لا. فالصراعات قد برهنت على عجزها في حل أزمات الشعوب والأوطان فهي قوة تدمير لا تترك مساحة لمنتصر، بل تجعل من الخراب والعنف حالة مرض نفسي يرى بالسلام غير لغة العجز وحوار الفاقد للقدرة على التحدي، وجعل عواقب مثل الخيانة والفساد والتلاعب بمصائر الأمة من مبادئ العمل السياسي والمهارة في قيادة البلاد، وتوسيع دوائر الصراع إلى حد إحراق كل شيء وذلك هو الانتحار الذي لا يقبل الفرد بل الأمة. ولكن حتى الآن ما زالت أمم في هذه الحالة لا تعرف كيف عليها فهم التجربة التي مرت بها فالإدراك جزء من درجات الارتقاء بالوعي وهو الفاصل الذي يقطع بين الوقت التجربة والزمن الذي تصبح فيه صفحة من التاريخ علينا التعلم منها لا السقوط تحت أسر الوهم. فالتجربة في السياسية ليست حالة تجمد بل هي دائمة الحركة مع مجريات التاريخ، غير أن الخطورة فيها عندما ينظر إليها على أنها من الثوابت التي لا يمكن تغييرها بما هو مخالف عن نمط العقل السياسي الذي لا يرى غير هذا أننا قد نذهب إلى هناك!! ولكن هناك لها أكثر من مسلك ونهاية، وربما تطرح علينا الكارثة كحل في صورة انتصار وندخل معمعة الراهنات الخاسرة وهي امتداد للأشكال السابقة من التساقط، لأن التاريخ مازال أمامنا مجرد مرآة لا نرى فيها غير فرديتنا، أما ما خالف ذلك فلا فنصبح مثل الكائن الذي فقد عيناً والأخرى ضعيفة النظر، وما بين العمى وضعف الرؤية لا يمكن رسم المشهد في العقل لذلك يصبح العقل مثل الغرفة المظلمة التي لا تتواجد فيها سوى حشرات الظلام. رابط المقال على الفيس بوك: http://www.facebook.com/photo.php?fbid=467628149942932&set=a.188622457843504.38279.100000872529833&type=1&theater