أن تتحاور مع الطرف الآخر، ذلك هو من أسس الوعي الفكري عند الأفراد والأمم.. أما أن تفرض صوتك المنفرد على مبدأ الحوار، هو القصور والعجز في استيعاب هذا المرتكز الحضاري عند الشعوب. غالباً ما نجد عند الجماعات والتحزبات السياسية، والتي ما يزال عندها مفهوم العمل السياسي ينطلق من الحفاظ على الانتماء المناطقي أو المذهبي يفرض حديث الصوت الواحد، وهو من المسارات التي لا تفرض حضورها إلا في جو الصراعات وتوسيع دائرتها، تلك أرضية حاضنة لمثل هكذا تفكير، فالفردية ليست تجسدها في الولاء للذات بل نرجسية جماعية طاغية إلى حد إلغاء أقرب المسافات الجامعة بينها وبين ما يجاور حتى ظلها.. فحديث الصوت الواحد يصبح من مقدسات هذا الحضور، القائم على قاعدة “إما نحن أو لا يكون هذا” مفارقة قاتلة لأن النفي هنا لا يأتي لإثبات حالة هي حق الإعلان عن التواجد في مربع وجهات النظر، بقدر ما يتحول إلى تحصين قتالي وعقيدة، أن تصبح السيادة لنا وما دون هذا يختصر مسافاته السلاح. لذلك نجد في تركيبة مثل هذه تدني مقدرة العقل وعن شلله عند مواجهة الأمور، الانفراد بالصوت وفرض مفردات لغوية تستمد معانيها من منطقية الانتماء السالف، يجعل مسألة خلق مساحة من الإدراك والتفكير يلتقي كل عليها من أصعب المحاولات في العمل السياسي. أن يعجز العقل أمام حديث الصوت الواحد، هي نكبة عانت منها عدة شعوب في فترة من قصور الوعي تسيد فيها منطق القهر ولجم الغير، مسافة من الزمن كسرت فيها حقوق وحق الشعب في إيجاد مرحلة مغايرة تخرجه من حقب الاحتراق بنار تلك الانتماءات المحرقة والحارقة، وأجبر على قبول بمبدأ أن الماضي وما عليه من تراكمات ربما كانت قطرات الدماء أكثر ما يغطي وجهها، وكأنها بوابة الشيطان الذاهبة بالفرد نحو العدم. العقل هو من يصنع ويوجد مفردات ومعاني الحوار، لذلك تتحرر الشعوب في الوقت الذي تمتلك فيه لغة تصنع المعرفة، والوصول إلى مستوى مثل هذا يدل على أن الفردية لم تعد حصاراً للذات، بل هي من متطلبات الانتماء للوعي الحضاري طالما الكل يعترف بأن العمل السياسي، هو إدارة المجتمع عبر الفكر، وما دون ذلك يصبح في حكم الأزمات التي تذهب باتزان الأمة إلى هاوية التناحر، الذي لا يوجد غير الرماد والدم. عندما ننظر إلى كوراث الشعوب والعوامل التي أدخلتها في رهانات قاتلة تفوق ما تملك من قدرات، نجد في أغلب الأحيان غياب قاعدة حق النقد والتعبير في العمل السياسي، ونجد حديث الصوت الواحد هو ما فرض على المراكز وقواعدها حتى تسرب التيبس في كل الجوانب وضرب أصغر موقع فيها فأصبح الجسد الهامد في غيبوبة الطاعة المطلقة لمصدر ذلك الصوت. وخاصية في مثل هذا التصلب أحرقت مراحل من الوعي عند الأمم وحولت السياسة من خبرة ممكنة وقراءة للتاريخ وفن الإدراك لما هو قائم في الواقع، إلى قوة قهر بيد من يملك النفوذ، وهنا تبدو مسارات التاريخ وقد تعطلت عن إنتاج الوعي الحضاري، تلك القوة المعنوية الدافعة نحو حدود التجاوز لما هو قائم إلى رؤية جديدة لا يشكل وجودها ميلاد حقبة زمنية جديدة بل خروج شعب من الاحتراق الداخلي إلى لحمة الهدف المشترك، وخلق البصيرة التي لا ترى بعين واحدة فقط. عندما يتم اللعب على مصائر الشعوب تحت قاعدة، هذا حق نحن من يمتلك القدرة على الدفاع عنه يسلب من الشعوب دورها في معرفة هذا الحق، هل هي مصالح سياسية تتقاسمها مراكز اللعبة، بما يحفظ لكل طرف وجوده عند كل لحظة تغيير؟ أم هو الشيء الممكن الذي على الكل أن يعرف ماهي أبعاده والخرائط التي ترسم الجهات الأربع في تحديد مسار الأمة. الأزمات السياسية في فترة صعود حديث الصوت الواحد تتضخم إلى حد الانفجار، فهذا الطرف المتعامي عن حق الغير لا يراعي حالة التصدع التي تضرب جسد المجتمع، وربما وجد في تفكك الوطن مساعداً عملياً على تسويق رؤيته بين الناس، فهو أن تحدث عن تلاحم الأمة ووحدتها، يعمل في الجانب الآخر على إحداث المزيد من التصدع والشقاق حتى يوهم الغير، أن غاب صوته عن الحضور فلم ترث الأمة سوى الخراب وتلك هي لعبة السُّلم والثعبان في واقع اكتسب من الدوران في نفس الحلقة المفرغة، فقدان حالة الشعور بالوقوف على نفس المربع وتكرار في صور اللعبة وإن تغيرت بعض الملامح. ربما كان ومازالت من أصعب الأزمات العاصفة بعدة شعوب ومنها العربية، مسألة صناعة القيادة، فحتى الآن تظل قضية من يحكم مرتهنة بالجانب العسكري، فقوة السلاح هي من هيبة الدولة، كم هو موجع أن تصبح القنبلة هي القوة المحركة لسياسة الدولة، وفرق مكافحة الشغب هي من يعلم الشارع السياسي كيف يمارس حقوق المواطنة، أما السجون فهي أماكن لكسر العظم أكثر مما هي تهذيب وإصلاح. إن هذا الكم من الملح الذي يدفن تحته الإنسان العربي لا يحرق الجسد بل يصيب الروح بحالة من الذوبان القاتل ويجعل العقل أكثر تقبلاً لما تسوقه عقلية الصوت الواحد من عبارات التلاعب والكذب، وحتى لغة التهديد تصبح من النصائح التي يجب الأخذ بها وكأنها من قدر الزمان، ولكن حالات مثل هذه لا تطول، فهي تحمل جرثومة سقوطها في داخلها مثل أي مرض من أمراض التاريخ الذي يضرب بعض الشعوب لحقب ومراحل ولكن الاستمرار يبدو من الصعاب، وكذلك التغيير وهو الحالة الحتمية، لا يكون من الأشياء السهلة، لأن منطق الحضارة مع مثل هذه المسائل يتطلب إيجاد وعي عند الأمة تصنع من خلاله الغد. رابط المقال على الفيس بوك