الانتقال من مرحلة إلى أخرى في السياسة، لا يعني تخطي السابق بكل ما حمل من أزمات وصراعات أو إلغاء استحقاقات كانت يجب أن تدفع، أو تجاوز مواجهات تعد من محاور الخلافات التي لا يمكن بترها نهائيا. واليمن هل تدخل بعد الانتخابات مرحلة سياسية جديدة؟. إن الانتقال السلطوي لا يعني الدخول في سياسات مغايرة، لأن التغيير شكل الدولة غير تغيير سياسات وأزمات أصبحت بفعل تراكمها الزمني قوة صدام يصعب إلغاؤها بمجرد نقل السلطة من حاكم إلى آخر. وفي اليمن لم تكن الأزمات تطالب بإسقاط الحاكم، وفعل مثل هذا يدخل في إطار الإصلاحات الداخلية ولكن هناك أكثر من مشروع يطالب باستحقاقات له يجب أن لا تسقط لأنها قد خرجت من دائرة المطالب إلى مساحات الحقوق المشروعة التي تسعى إلى إيجاد كيانات سياسة لا يمكن لها أن تكون إلا بخروجها سياسيا وجغرافيا عن الدولة اليمنية التي عجزت في تقديم صورتها السياسية القائمة على المواطنة والحقوق الإنسانية واستخدمت من قوة القمع والإلغاء ما جعل تلك المطالب تتحول إلى تحديات ومواجهة يصعب الخروج منها بحلول هي أقرب للدوران حول الأزمة، أكثر مما هي حل نهائي لها. عندما ترحل استحقاقات الشعوب من فترات إلى أخرى ومع ما يصاحب هذا الترحيل من صراعات وتحديات تصل إلى حد سفك الدماء وقتل الأرواح ومصادرة أبسط حقوق المواطنة، تكون مقدرة المواطن صاحب المشروع السياسي قد امتلكت صلابة نفسية وقدرة على مواجهة الدولة وفرض تصوره، وحتى إن دعت الدولة الجديدة للحوار، تكون المسائل قد تجاوزت حلول ترضي كل الأطراف، لأن الحلول التي تذهب في هذا الاتجاه هي أساسا تهدف إلى استمرار مخطط الاحتواء، سياسيا عملية الاحتواء لا تقدم حقوق ولكنها تزيح الآخر من مساحة تواجده إلى أصغر الزوايا وتحجم حضوره في درجة التابع وليس المشارك. وحالات التأجيل للأزمات وتراكم صراعاتها يضع الدولة الجديدة في نفس مربعات الدولة السابقة، لأن خلق جمهورية إفلاطون من أوهام التخيل السياسي، واليمن بلد عاش حلم الجمهورية أكثر مما صنع دولة المؤسسات، لذلك نجد الحلم عندنا كثيرا ما سبق وربما يتغلب على الحقائق، والدولة بفعل ممارستها ولتسويق الأكاذيب والأوهام، عبر عقود، أصبحت بفعل هذا في الحاضر في مواجهة مباشرة مع المواطن، فإن كانت الناس وفي السابق قد انتظرت كل هذا السنوات ثم كان الانفجار، فهي في الحاضر ليست مستعدة أن تقدم مزيدا من الانتظار حتى ترتب الدولة الجديدة أوضاعها لعدة سنوات. تأجيل الاستحقاقات في الراهن من الصعوبة تقبله، لأن السكوت على المظالم وما وقع على كل فصيل سياسي من قهر، لا يمكن أن يوجد عند أي طرف من هؤلاء رغبة في التنازل عن وأبسط الحقوق طالما ظلت الدماء والأرواح هي من يدفع ثمن هذه المشاريع السياسية لذلك على الدولة الجديدة أن تردك أن حسم السلاح مع المشاريع السياسية المتأزمة في البلد، لم يعد يفيد، فهي إن تعاملت معها بعقلية الحكم السابق تدخل في مواجهات تصاعدية تفوق ما كان بين هذه المشاريع والدولة الأولى وإن جلست على طاولة الحوار لغرض الدوران واللف والتلاعب بأوراق الحلول، دون الاعتراف بحقوق هذه المشاريع، فهي لن تكسب مزيدا من الوقت لتطيل زمن المماطلة، بل تدفع بالأمور إلى مساحات أوسع وتدفع بمراكز قوى متطرفة قد تتسيد المشهد السياسي وتسحب أرقام المعادلة الحسابية السياسية من آخر مربعات الحوار إلى مساحات التصادم وفي هذا تدخل البلاد في مراحل جديدة من صراعاتها وأزماتها.
الدولة الجديدة دائما ما تجد نفسها أولا في مواجهة مع الدولة القديمة بما تركت من مشاكل وأزمات قبل أن تدخل الأولى في صدام مع الشعب، لأن الأزمة الأولى تكون في تركة النظام السابق، وفي مجتمعاتنا دائما ما تذهب الأنظمة وقد تركت خلفها من الكوارث أكثر من المنجزات، والأنظمة التي حافظت على وجودها من خلال تصاعد الصراعات وضرب الأطراف ببعضها ودخول المال السياسي في شراء الولاءات والمواقف وجعل السلاح قواعد اللعبة في زرع الفتن وتفجير المواقف كل هذا لا يمكن إعادته إلى نفس المربعات التي لعب عليها النظام السابق، كما لا يمكن تركها معلقة دون استحقاقات يجب أن تدفع. إن القضايا والأزمات التي تقف أمام الدولة الجديدة في اليمن، ما يجعل الكثير من خطواتها نحو الأمام تعود وتدور في نفس المساحات السابقة، لأن الدولة الأولى لن تتحول إلى ماضي بمجرد تغيير الحاكم، فهي ليست مجرد فرد حكم ثم ذهب. ولكنها أفعال تراكم فيها من الضغط والتصارع وغير هذا على مدار عقود ظلت ترحل بسكوت على وجودها حتى تداخلت خيوط الجرائم مع أطراف المصالح، وامتزج لون الدم مع ظلمة المراحل التي رسمت صورة السلطة في وجهها القهري الذي ظل لعدة عقود يرمز لقوة الحكم. دولة جديدة لا تعني في الساسة مرحلة جديدة، لأن المراحل لا تذهب إليها الشعوب بمجرد رفع شعارات التغيير، أو بإسقاط نظام وصل إلى أقصى درجات التصدع السياسي، بل هي عمليات إعادة إنتاج للعقليات والأفعال والأفكار تتطلب من الشعوب حقب من التاريخ وفترات من خلق أجيالا جديدة تدرك أن الدولة العصرية هي إنتاج للمعرفة التي توجدها ثقافة سياسية تجاوزت حكم القدر والقبيلة والمذهبية والمناطقية وكل عمليات الاستحواذ والنهب وقمع من خالف تصور الدولة. إنها مرحلة ليست جديدة في كل شيء لأن مخالب العهد السابق ما زالت تمتلك قدرة التمزيق بما تركت من أزمات وتحديات وعلى الكل أن يدرك أن الذهاب النهائي لها لم يأت بعد.