كان ذلك في أوائل السبعينيات من القرن الماضي وكنت في مدينة الحديدة وكنا في مقيل حين دخل علينا رجل أشعث أغبر من أثر السفر وكان السفر حينها شاقاً بسبب بدائية الطرق ووسائل المواصلات،كنت أعرف هذا الرجل من خلال ملامحه الأولى ولكن هيئته تبدلت كثيراً منذ عرفته قبل نحو عقد من ذلك اللقاء ..كان هذا الرجل حين عرفته أول مرة في مدينة التربة «ذبحان» شاباً أنيقاً وسيماً تبدو على سيماه آثار النعمة والوقار ولم تكن تغادر وجهه ابتسامة لم تفارقه حتى موته. نعم كان شاباً في هيئة شيخ من مشائخ شرجب المميزين بملابسهم التي يغلب عليها البياض وعمائمهم السلاطينية التي كانت تستورد من الهند لسلاطين الجنوب اليمني وتصنع من الحرير المطرز ولا يقتنيها إلا كبار المشائخ في الشمال. أما الآن فقد تبدل حال الشاب الوسيم الأنيق وتبدلت هيئته إلى هيئة شبه رثة وبدت متاعب الحياة ومشاقها تظهر على محياه .. سلّمت عليه وجلسنا معاً وتداولنا أطراف الحديث فعرفت منه أنه بدأ بممارسة التجارة لكسب لقمة العيش وخلع ملابس الشيخ وجنبيته وعمامته ليرتدي ملابس رجل الأعمال العادي البسيط. كان ذلك هو الكريم بن الكريم الشيخ عبدالولي بن الشيخ أحمد سيف الشرجبي - رحمهما الله. كان بإمكان شيخنا الابن أن يعيش على ما يجود به أبوه عليه من عطايا وكان يمكنه أن يتبوأ موقعه كشيخ ويحصل على رواتب ومخصصات وتابعين خصوصاً أن أباه هو المسئول الأول عن كل المخصصات التي كانت تصرف لمشائخ وأعيان منطقة الحجرية وموكل به وبهم حماية الحدود .. ولكن الأب الزاهد العفيف اليد والضمير لم يرض لولده أن يعيش على هذه المنح والعطايا خصوصاً أنه هو نفسه كان من أزهد الناس في المال العام الذي يتولى إنفاقه على الآخرين وهو أكثر تعففاً وزهداً عما سواه من عطايا ..ولولا أن في قيامه بواجب الإشراف على الحدود مصلحة أمنية للبلاد والعباد والدولة والناس لا يرتضون غيره قائماً بها ..لتركها غير آسف..لقد التقيته ذات مرة وكان يسمع عني بحكم صداقة وثيقة تربطه مع والدي -رحمهما الله - وقال إني أسمع عنك وبدا أنه كان سعيداً بما يسمعه ودعا لي بالثبات وقلت له إننا نقتدي بكم يا سيدي وكنت قد سمعت أن أحد أعمامي من مشائخ الحدود وبمناسبة عيد الأضحى أرسل له مجموعة من الأضاحي كهدية فما كان منه إلا أن استأجر رسولاً وأعادها له في الحال فقلت له: لقد سمعت من أبي الكثير عنك وآخرها قضية الكباش .. قال: يا إبني نحن نريد أن نخدمهم ومثل هذا لا يساعدنا على خدمتهم .. وهو يعتقد أنه لكي يخدمهم يجب أن يكون منزهاً عن كل غرض حتى ينجح الله مقاصده . نعم لقد شجع ابنه على ممارسة التجارة ليكسب عيشه بشرف وبعيدا عن الشبهات .. وظل حاله كذلك حتى استشهاد الوالد على أيدي قوى الغدر والإجرام ..الشيخ أحمد سيف الشرجبي خلف ذرية طيبة كلهم أخيار وكان أكبرهم هو الشيخ عبدالولي الذي وافته المنية في صنعاء وكان عضواً في مجلس الشورى لم يدنس مسلكه أية شبهة أو حرام فيما نعلم ، فقد عاش زاهدا ومات كذلك متواضعاً في عيشه مستقيماً في سلوكه خدوماً غير متلفت إلى ما في أيدي الناس ..لم تكن تراه إلا مبتسماً منصرفاً إلى شأنه وعبادة ربه راضياً بما قسمه الله مشاركاً للناس في مناسباتهم ودوداً زاهداً وهكذا كان أبوه وهكذا هي ذرية شيخنا الشهيد أحمد سيف الشرجبي؛ بارك الله فيهم أجمعين. رحم الله شيخنا الفقيد وأوسع مدخله وبوّأه مقعد صدق وألحقة بسلفه الأخيار وبارك له في عقبه وبارك لذرية شيخنا الشهيد أحمد سيف الشرجبي وأحسن عزاءهم وعزاءنا في الفقيد ..«إنا لله وإنا إليه راجعون». رابط المقال على الفيس بوك