خرج مانديلا من سجنه ليصبح أول رئيس أفريقي منتخب لجنوب أفريقيا، لكنه كان على موعد مع الاستحقاق الأكبر والعاصفة الأعتَى، فقد شرع بعض أنصار المؤتمر الوطني الأفريقي في إشهار سيف الانتقام والتلويح بعنف أهوج ضد المستوطنين البيض، فما كان من مانديلا إلا أن طالب ملايين الجماهير الغفيرة في ملعب الاستاد الكبير بمدينة جوهانسبرج العاصمة بالتخلِّي التام والكامل عن أي خيار عُنفي انتقامي، مُتحدثاً إليهم بصفته زعيم المؤتمر الوطني الأفريقي من جهة، ورئيس عموم المواطنين في جنوب أفريقيا، سارداً معاناته الشخصية على مدى ربع قرن من الاعتقال المقرون بالأشغال الشاقة، وكيف أنه يخرج اليوم إلى فضاء الحرية وهو مُحب لجلاديه بالذات، رافضاً أي عنف محتمل ضد المواطنين البيض. قائلاً بلسان الحال: أنا رئيس الدولة من أجل السلام والتضامن والمواطنة المتساوية، ولستُ رئيساً لتصفية الحسابات والانتقام، ومشروعي لجنوب أفريقيا يُختصر في التسامح والتصالح والشروع في مرحلة للعدالة الانتقالية، تُجبر ضرر المتضرّرين، وتغفر لمن التبس بالدولة، مُنفذاً كان أو صانعاً لسياسات الفصل العنصري. كلماته الواضحة، وإصراره على أن تعبيره عن إرادة الناخبين مرهون بقبول من اختاروه لمنهجه السلمي الرافض للعنف، حوَّلت المشهد الانتقامي المفترض إلى حقيقة واقعية، مداها جنوب أفريقيا المُتصالحة القابلة لتعايش الأنساق والثقافات، والتخلِّي عن الماضي البائس غير مأسوف عليه. تلك محطات عابرات من عوالم مانديلا الكبير، الراحل عن دنيانا، وقد ترك لنا رسالة ناجزة تستحق الاستعادة والاستفادة من قبل كل الواقعين في خيارات العنف والبؤس. [email protected] رابط المقال على الفيس بوك