كيف لأمة متخمة بالأحقاد والأضغان والكراهية والدماء والجراح والآلام أن تحتفل اليوم وتبتهج بذكرى ميلاد إنسان متسامح قال لأعدائه يوم أن دخل مكة منتصراً: «اذهبوا فأنتم الطلقاء»؟! .. قال ذلك لأناس آذوه وشتموه ووضعوا عليه القاذورات وأشعلوا النار في طريقه ورجموه بالحجارة وحاصروه ومنعوا عنه الطعام والشراب وعزلوه عن العالم وتآمروا على قتله ورموه بأصناف التهم والافتراءات وضربوا أصحابه ونكّلوا بهم وقتلوا بعضهم ثم اضطروه إلى الخروج من وطنه ومفارقة أهله وناسه. صاحب الميلاد صلى الله وسلم عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين - رجل مظلوم عاد إلى مكة بجيش من عشرة آلاف مقاتل, ولم يقل: ألقوا القبض على سيد مكة واقصفوا داره بالمنجنيق «الكاتيوشا القديمة» ليأخذ جزاءه العادل على ما صنعه بحق الشعب من قتل وتنكيل ومؤامرات.. وإنما قال: «من دخل دار أبي سفيان فهو آمن», ليذكّر المسلمين وليذكِّر أبا سفيان وغيره من المشركين أن دين الإسلام دين التصالح والتسامح والعفو وخفض الجناح, وليس دين القتل والإرهاب والانتقام وإذلال الإنسان أو التضييق عليه.. والنبي الكريم بهذا القول أعطى أبا سفيان حقه من التوقير لمكانته في قومه «أنزلوا الناس منازلهم», ثم إن هذا التوجيه النبوي لا يعني أن من لم يدخل المسجد أو دار أبي سفيان سيلاقي حتفه بسيف المنتصر وسينهب ماله وممتلكاته بناءً على «ثقافة الفيد» التي يؤمن بها بعض مسلمي اليوم.. إنه احتفاء بقيمة الأمن والسلام والإعلاء من شأنهما وتوجيه ورسم خطط لمساراتهما, وإلا فإن دار أبي سفيان كم يبلغ حجمه حتى يتسع لأهل مكة كلهم؟! ولم يقل فتشوا في البيوت عن الأصنام وحطموها أو فاهدموا البيوت بما فيها من الأصنام.. ولم يقل: اقصفوا دار الندوة, مركز القيادة أو غرفة العمليات التي كانت قريش تدير مؤامراتها منه, ولم يقل: اهدموا الكعبة لأبنيها من جديد بأموال طاهرة, ولأطهرها من رجس الشرك والتسلط المتراكم من مئات السنين. لم يكن منه سوى أن حمل أصحابه على تحطيم الأصنام التي تلتف حول الكعبة فقط, لأن القضية التي حملها ليست عداءً شخصياً مع أناس أو عناداً لهم حتى يمرغ كبرياءهم في الوحل .. وإنما هي قضية دين وقيم ومستقبل ومصلحة أمة, وهي قضية أساسها إخراج الإنسان من عبودية الباطل والزيف والأشخاص والمصالح إلى عبودية الله الواحد.. ثم إن المنتصرين سيكسرون بتحطيم الأصنام رمزية هذا الزيف في قلوب أهل مكة وثقافتهم المترسخة, وبتحطيمها أيضاً سيفرغ المنتصرون طاقاتهم ورغبتهم في الانتقام ممن ظلمهم وقتلهم على تلك الأخشاب والأحجار .. فلا احتفال في شريعة محمد على أنهار من الدماء, ولا ترانيم فرائحية تأتي لتختلط بأنين الجرحى وصراخ أطفال انضموا حديثاً إلى قائمة اليتامى, كما هو حاصل اليوم. إذن كيف نجرؤ، نحن المسلمين اليوم على الاحتفال بذكرى مولد هذا النبي الكريم المتسامح, ونتظاهر بحبه والفرحة بمولده, ونحن نملأ الأرض بجثث القتلى من أمته في كل قطر من أقطارنا العربية؟ ونحن نمنع عن بعضنا حق الطعام والشراب والهواء, ونحن نجيد صناعة الموت ونتقدم فيها كل يوم, ونحن غير قادرين على القبول ببعضنا واحترام التنوع المذهبي واختلاف الآراء, ونحن غير قادرين على صون دمائنا وتضميد جراحاتنا والاعتذار لبعضنا عما بدر منا. إن ذكرى المولد النبوي الشريف يا عرب اليوم - احتفال بذكرى إنسان استقبلته هذه الدنيا ليقيم دولة العدل والمحبة والسلام والتعايش بين الأمم, وبين الطوائف والقبائل في إطار الأمة الواحدة.. ذكرى إنسان ساوى بين الفارسي والعربي, والحر والعبد, والمولى والسيد, والبدوي والحضري, والملوك والسوقة, والمهاجرين والأنصار, والرجل والمرأة, والأبيض والأسود, والقوي والضعيف, والغني والفقير, وقال: «كلكم لآدم وآدم من تراب, لا فضل لعربي على عجمي ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى .. والتقوى في القلب» .. أي أنها تتجسد في الخشية من الله عن صنع ما لا يرضاه من الأقوال والأفعال. لذلك ينبغي أن يكون الاحتفال بذكرى المولد محطة لمحاسبة النفس الأمارة بالسوء على ما جنت بحق الآخر, وحملها على ترك الأنانيات والأهواء وإكراهها على القبول بالآخر, مهما كان رأيه مخالفاً, وتذكيرها بأن الرسول الكريم حرّم أن يشير المسلم لأخيه بسلاح, فكيف بمن يقتله أو يجرحه أو ينكّل به؟! أما إذا أصررتم على ما أنتم عليه يا عرب اليوم, فثقوا أنه لن يكون لكم من أجر الاحتفال إلا الصخب وأن تبح أصواتكم وتذهب أموالكم وتهدروا أوقاتكم جازاكم الله بما تستحقون يا من أدمنتم العقوق لهذا النبي وتقتلونه في كل يوم, ومع ذلك لا تتورعون عن التشدّق بحبه.. ألا تخجلون!! [email protected]