لا أعلم منذ كم وأنا أسمع وأقرأ عن صراع يثور ويخمد بين مواطنين في مدينة الحديدة وجنود من أحد الألوية العسكرية هناك حول أراضٍ يريد أفراد اللواء البسط عليها, ويحاول أولئك المواطنون صدهم عن ذلك, مستميتين في حماية أراضي محافظتهم من النهب والاستيلاء عليها بقوة الجاه والمشيخة أو بقوة الرتبة والمنصب أو بقوة الرشاش والمدرعة. هذا الصراع أول ما سمعته يتردد على مسامعي – كما أظن – مع حلول أزمة 2011م.. لكن الذي أنا واثق منه هو أن خبرًا كهذا لم ينقطع تكراره في الصحف وبعض القنوات الفضائية, مع ملاحظة أن من يصوغون هذا الخبر كثيرًا ما تحكمهم الإثارة, فهم يركزون على أن «مواطنين محتجين يُحرقون الإطارات ويقطعون الطريق», أكثر من تركيزهم على أن «جنودًا ونافذين يسطون على أراضٍ», وكأن مكمن الغرابة والإثارة في الاحتجاج والغضب وليس في السطو والنهب, بحجة أن أبناء تهامة هادئون مسالمون, ويكون الإخبار عن غضبهم فيه إثارة.. ونحن في ذلك مخطئون؛ لأن الهدوء والمسالمة لا يعنيان بالضرورة الذل والعجز, ولا ينبغي أن نتناسى ثورة الزرانيق على الحكم الإمامي. بيت القصيد هو أن في هذه الأيام تعود مشكلة التهاميين مع بعض العسكر كعادتها إلى الواجهة, ليبدو هذا الصراع كأنه شيء طبيعي, لاسيما أنها محافظة بعيدة عن الأعين, وليس لديها شيء من نفط أو ذهب يُذكِّر الحكومات بها غير بقايا ميناء بطيء الحركة, وبضعة كيلومترات تسيل لها لعاب المتنمرين, في مدينة يصرّ البعض على مجاملتها بالقول: إنها عروسة البحر الأحمر, أو كما ينطقها الأستاذ أيوب طارش: «أروسة امبحر» في أغنية «وازخم». بطبيعة الحال, أنا لا أعلم ما حقيقة هذه المشكلة وما الأسباب المباشرة التي أدت إلى نشوبها حتى أُسارع في الانحياز إلى طرف على أنه مظلوم.. لكن الذي يُجمع عليه الكثيرون هو أن المعاناة هناك على قدم وساق, خصوصاً في قضايا الأراضي, فإذا تحدثتَ عن الحديدة فلا بد أن تُعرّج إلى ذكر تاريخ من الذلة والمسكنة أمام جبروت البيادة وعسيب الشيخ وعمامة القاضي ونظارة المسؤول وشيكات التاجر.. هناك حيث الصحارى والقفار والهضاب والسواحل مقسّمة بينهم, وحيث تجد مكتباً للأراضي أو للأوقاف يتصرف بأراضي الدولة وعقاراتها كما يشاء هو, وكما تشاء الأوامر الصريحة من منطلق أنه هو الدولة, وله مطلق الحرية في التصرف بأملاك عروسة البحر الأحمر. هذه هي الحديدة.. مدينة تقود نفسها ومواطن بسيط لا ينشغل بغير نفسه.. وهذا المواطن إذا ما دخل في صراع – مصيباً كان أو مخطئاً – فإنه يظل وحده, فليس هناك من يحميه أو يرده إلى الحق, وكأنه يعيش في صحراء, وليس في مدينة ينبغي أن يكون فيها المواطن تحت رعاية أجهزة الأمن والقضاء. لكن, وهل في «أروسة امبحر» محاكم؟ هذا السؤال المضحك المبكي يحضر إلى ذهني وأنا أتوق لسماع صوت محكمة تقول الكلمة الفصل في قضايا النزاع على الأراضي أو غيرها من المظالم, منتصرةً للمواطن التهامي ورأسمال مدينته من الأراضي والثروات. أين نعيش نحن إذن؟ هل نحن في غابة, القوي فيها يأكل الضعيف؟ وصاحب السلاح يقهر الإنسان المسالم؟ ولماذا لا يحضر ذكر مصطلح «الدولة» إلا في ساعة الحديث عن التصرف بأرض أو بعوائد الثروات, ولا يحضر ذكرها في حالة الحديث عن الفقر المدقع في تهامة والحرمان من الخدمات الصحية وغيرها, وعجز الحكومات المتعاقبة عن إنهاض مستوى حياتهم بما لدى مدينتهم من إمكانات سياحية وتجارية.. هل هذه هي العلاقة الطبيعية بين الدولة ومواطنيها؟ كيف ستقوم دولة متطورة ليس فيها من يأخذ على يد الظالم, ويرده عن ظلمه؟ وليس فيها قضاء يميز بين الحق والباطل, والظالم والمظلوم؟ وليس فيها سلطة تهيمن على الجميع ويهابها الجميع؟. على العموم, الكلام كثير, وبعض التصرفات مع أبناء الحديدة غير مقبولة, ولم يبقَ سوى أن ننتظر من المعنيين بتنفيذ مخرجات الحوار أن يعطوا قضية الصراع على الأراضي بين المواطنين وبعض وحدات الجيش حقها من الاهتمام والمعالجة, ذلك إنه لا طريق صحيح إلى المستقبل المأمول إلا من خلال حضور هيبة الدولة العادلة, وإعادة الحقوق إلى أصحابها, وسماع أصوات المظلومين وإنصافهم, وحماية المواطن الضعيف من بطش القوي, وإلا فإن قيمتنا تهون عند الله وعند الناس. [email protected]