كشيطان متمردٍ، انبثق من جبهة إلهٍ عجوز، في معبدٍ متهالك.. انفلت «أنسي الحاج» في الثقافة العربية ليدمر ويهدم ويجن ويرفض.. يلعن كل شيء، ويثور على كل شيء: الشعر والشاعر والقارئ والناقد والشكل والمضمون الشعري.. والثقافة العدمية التي أنتجت كل هذا الركام.. مقدمته لديوانه الأول (لن) «1960م»، تكفي لجعله رقماً مهماً في تاريخ الشعر والنقد العربي المعاصر، باعتباره «صاحب أول وثيقة في قصيدة النثر، المكتوبة بالعربية، ديوان (لن) هو الكتاب الأول، المعرّف نفسه بقصيدة النثر، والمكتوب بهذه الصفة تحديداً، والمتبني لهذا النوع تبنياً مطلقاً..». كانت خطاباً موجّهاً للنخبة الشعرية والنقدية العربية، أشبه بالرسالة الشهيرة لمارتن لوثر الموجهة للكنيسة الكاثوليكية، من حيث الاستفزاز والاحتجاج والاعتراض ورفض السلطة واجتراح الثوابت التي صارت مقدسة. لكن أنسي الحاج لم يكن قديساً لاهوتياً مثل لوثر الذي ثار على الكنيسة ليؤسس كنيسة أخرى، ولم يكرر تجربة الثورات العربية التي كعادتها تثور على المستبد لا على الاستبداد، على القوالب لا على القولبة، بداية بالكلاسيكية التي ثارت على سلطة تقاليد عصر الانحطاط، لتصبح هي السلطة الشعرية، وبموجبها رفضت الاعتراف بشرعية أشكال شعرية لاحقة استجدت مع الرومانسية، التي ثارت لتفعل المثل، وصولاً إلى ثورة الشعر الحر التي بدورها رفضت قصيدة النثر، لدرجة أن «نازك الملائكة» استنكرت كتابة كلمة «شعر» على غلاف ديوان «حزن في ضوء القمر» للماغوط، لأنه حسب رأيها نثرٌ لا علاقة له بالشعر.!! في هذا السياق، ظهر «أنسي الحاج» وزملاؤه، وعلى هذا المحك، برزت عظمة ثورتهم الشعرية، لأنها كانت ثورة على السلطة، وعلى فكرة أن يكون للثورة سلطة، وحتى على فكرة الشرعية نفسها. المقدمة في مجملها توصيف لكتابة شعرية غير مشروطة مسبقاً بمعايير الوزن والكم، وتضمنت بجانب تحديد مفهوم قصيدة النثر، وتأصيله، هجوماً نقدياً عنيفاً على القيم التقليدية الحاكمة معيارياً وتذوقياً للشعر والنقد العربي وحتى على القارئ والجمهور الشعري العربي الرجعي، وبحسب عبارته، ف «بين القارئ الرجعي، والشاعر الرجعي حلف مصيري». منذ البداية طرح أنسي الحاج قضية الجنس على محك التساؤل، مميزاً بين الشعر والقصيدة، فالقصيدة «يجب أن تقوم على عناصر الشعر لا لتكتفي بها، القصيدة لا الشعر هي الشاعر، فالقصيدة العالم المستقل الكامل المكتفي بنفسه، هي الصعبة البناء على تراب النثر..»، وما دام النظم ليس فرقاً حقيقياً بين الشعر والنثر، «فليس ما يمنع أن يتألف من النثر شعر، ومن شعر النثر قصيدة نثر»، مضيفاً: «كل مرادنا إعطاء قصيدة النثر ما تستحق: صفة النوع المستقل، فكما أن هناك قصيدة وزن تقليدي، وقصيدة وزن حر، هناك قصيدة نثر». عاش طويلاً «1937: 2014م» يجابه كل القيود، وبلا هوادة، وها قد رحل، لكن بعد أن دمّر معبد المقدسات السلطوية والثورية، التراثية والمستحدثة، وسلك طرقاً غير مطروقة، وعبّدها لحداثة لا يمكن الحديث عنها دون المرور باسمه المحفور عميقاً في قلب وذاكرة التحوّلات. [email protected]