ونحن في الباص الذي يقلنا من وإلى المركز الذي أعمل فيه - أحد مراكز تأهيل ذوي الاحتياجات الخاصة – وقف الباص على جانب الطريق، في انتظار صعود عدد من الطلاب والطالبات إليه وهم من مختلف الأعمار والمراحل الدراسية، حيث ينتظرون قدومه كل صباح بشوق ولهفة، ليأخذهم إلى واحتهم الظليلة، وإلى رئتهم الثالثة.. ففي هذا المركز يلتقي أبناؤنا من فئة الصم والبكم من مناطق متفرقة من مدينة تعز، وهناك لا يشعرون بالاختلاف أو الغربة، فجميعهم من نفس الفئة، وجميعهم يعاني نفس الإعاقة، كما أن معلميهم على قدر من الخبرة والتأهيل تمكنهم من التفاهم معهم بسهولة.. المهم صعد جميع الطلاب إلى الباص، وتحرك بنا مسافة بسيطة، لنتفاجأ بأحد طلاب الصف الرابع يصرخ في وجه السائق، محاولاً لفت انتباهه إليه، لكن السائق لم يهتم كثيراً لصراخه لما اعتاده من سماع صرخات الطلاب وإزعاجهم طوال الوقت داخل الباص، فعاد الطفل ملتفتاً إلينا – نحن المعلمات – حيناً وأحياناً إلى زجاج النوافذ، يصرخ ويقفز ولا يطيق بقاءً داخل الباص، والدموع تغطي وجهه، مشيراً إلينا بيديه في محاولة لإفهامنا بأن أخاه الصغير - في التمهيدي – لم يصعد إلى الباص مع بقية زملائه، وأننا تركناه في مكان ما في الشارع.. صرخاته وتخبطه ودموعه الغزيرة مع عدم قدرته على التعبير الكلامي أثر كثيراً في كل من كان داخل الباص .. استوعبنا ما أراده هذا الطفل، وطلبنا من السائق العودة بنا من نفس الطريق الذي قدمنا منه، والولد لا يزال في حالة من الهلع والقلق لا توصف مشيراً بيديه إلى ما معناه (أخي الصغير في الشارع، لا أدري كيف اختفى من أمام عيني، أخي لن يستطيع العودة إلى المنزل، ولن يستطيع اللحاق بنا، أخي لا يستطيع الكلام، لن يتمكن أحد من مساعدته.. أرجوكم لا تتركوه في الشارع.. ) وما هي إلا لحظات قليلة حتى ظهر أمامنا الولد الصغير قريباً من المكان الذي أخذنا منه زملاءه، كان ينظر إلينا نظرات تعبر عن التساؤل والاستغراب.. كيف تركتموني وحيداً ؟! لماذا أخذتم أخي وتركتموني في الشارع؟! أشرنا إليه بأن يصعد إلى الباص، فصعد وقد امتلأ أخوه الأكبر بشحنة كبيرة من الغضب والتشنج، تكافئ مشاعر الحب والهلع التي اعتصرته في لحظات غياب أخيه، فلم يتردد أبداً في التعبير عن هذا الغضب بركلة قوية سددها لأخيه في مؤخرته، وكأنه يقول له فيها: لقد سببت لي الكثير من الألم بسبب استهتارك وحمقك..!! هذا المشهد أثار داخلي مزيجاً من المشاعر، التي لا أدري ما اسميها بالضبط ، لكني أعتقد بأني كنت سعيدة لوجود هذا الإحساس بالمسؤولية والتراحم بين الإخوة الصغار، والتي قد يفتقدوها كثيراً حين يكبرون ..