ظل الزبيري عموماً في عراك كبير مع الوعي الإمامي .. وفي روايته «مأساة واق الواق» تعبير بليغ عن معاناة اليمنيين الشديدة من بيت حميد الدين الذين ظلوا يستأثرون بالعباد والبلاد بسبب الاصطفائية الدينية التي أصبغوها حول أنفسهم. كان الزبيري يرى أن «الإسلام دين وثورة»ولقد ضمن هذه الرؤية في واحدة من أهم كتبه بالعنوان نفسه، بل من أهم كتبه المنسية أيضاً كتاب حمل عنوان «خطر الإمامة على الوحدة اليمنية». عقب ثورة سبتمبر كان الوسط الجمهوري غير متماسك وهي فترة حساسة جداً من منعطف تلك الثورة التاريخية حتى زاد الصراع بين أصحاب النزعة الإصلاحية كالزبيري والنعمان وبين أصحاب النزعة المتطرفة في ثوريتها. وبرأيي أن أهم ما عاناه الزبيري في بلد كاليمن أنه لم يكن ذا نفوذ قبلي يحميه مثلاً بحيث اصطدم وبشدة مع النفوذ المصري الذي كان طاغياً بعد الثورة، كما عارض السلال كثيراً وكبار الضباط والمناضلين معه في الصف الجمهوري المقربين من المصريين. كان الزبيري يرى أن القوى القبلية التي أسقطت ثورة 48م - كما يسميها هو وليس باعتبارها حركة كما يسميها آخرون - قد تغيرت وأصبحت قادرة على حماية الثورة والوقوف إلى جانبها إذا نالت حظها من مشاركة القيادة.. قال ذلك في محاضرة له عقب ثورة سبتمبر بثلاثة شهور بالقصر الجمهوري. والواضح إن الزبيري تأثر كثيراً بنزعة الدستوريين رغم إخفاق التجربة ووأد الإمام لها بشراسة فيما أثرت بنفسيته تماماً وظل مخلصاً للتجربة رغم كل التغيرات. ففي قصيدته الشهيرة المؤلمة نكسة الثورة يقول: أنا راقبت دفن فرحتنا الكبرى وشاهدت مصرع الابتسامة ورأيت الشعب الذي نزع القيد وأبقى جذوره في الإمامة نحن شئنا قيامة لفخار فأراه الطغاة هول القيامة. وفي إحدى رسائله يقول لتبرير الانتكاسة «لم يكن الشعب ضد مبادئنا ولكن غلبة الأمية حجبت عنه رؤية ما نريد وغاية ما حققنا، ولو كان العهد الأمامي يملك شيئاً من الحرية لأمكن توعية الشعب بما نريد، غير أنه تلقى دعاية الإمام أحمد ضد قتلة أبيه ولم يسمع ماذا عند الثوار». كان الزبيري وزيراً للمعارف في حكومة 48م التي انقضت بشكل لا أسرع منه - استمرت 3 اسابيع - لكنه عيّن وزيراً للمعارف في حكومة ثورة سبتمبر، ثم نائباً لرئيس الوزراء وعضواً في مجلس الثورة حتى استقال عام 1964 بعد تفاقم الاختلافات في الصف الجمهوري ووصوله إلى قناعة تأسيسه لحزب الله رغم تجريم الحزبية آنذاك. طبعاً الفارق جوهري بين حزب الله الذي كان الزبيري يريد تأسيسه لمحاربة التخلف الاصطفائي الذي أرساه الإماميون في عقول الناس وبين أنصار الله أتباع الحوثي اليوم الذين يرون بأحقية سلالة بني هاشم في اليمن بعودة حكم اليمنيين وفق منطق الإمامة للبطنين. معروف إن الزبيري تمتع بقدرة فائقة على لم شمل الجميع كما امتازت شخصيته بمغناطيسية تجذب له حتى المختلفين معه في الرأي ولذلك احتفظ بصلات مودة كبيرة وفائقة حتى بين أعدائه. وأما عن مدحه للإمامين أحمد ويحيي في الفترات السابقة للثورة فيقول «كنا نتسلل الى بواطنهم بالشعر لكي نحرك فيهم شهوة العظمة وبعد هذا يمكن تغييرهم الى وجهة الإصلاح والى النزول عند رأي الشعب». كذلك يؤخذ على الزبيري من قبل عديد مثقفين امتداحه للملك سعود في قصيدة فيما يرجع البردوني ذلك الى ان شاعرنا ربما أراد إغضاب الإمام يحيى ويضيف البردوني: لكن المسألة ليست عداوة أشخاص وإنما هي اقتطاع أجزاء من تربة الوطن الذي يتفانى فيه الحاكم والمحكوم ولو صدر هذا عن غير الزبيري لهان الأمر. من ناحية أخرى كان الزبيري الذي جاهر بعدائه للغرب على علاقة حميمة بجماعة الإخوان المسلمين في مصر كما على عداء شديد للغرب حتى انه كان يرى ان استقلال الوطن وحمايته من الغرب أقوى شروط الوطنية. وفي ظروف الالتجاء إلى عدن حيث الاستعمار الانجليزي سكت الزبيري عن التعرض له بحيث ان الفترة الحرجة التي كان يعانيها مسؤولة عن موقفه المضطر هذا فهو حين عاد إلى مصر كتب قصيدة عن عيد الجلاء مجلجلة فتنت المصريين ومحبي الزبيري في كل مكان تصل إليه إذاعة صوت العرب. وفي عام 61 كتب الزبيري واحدة من أهم روائعه الشعرية بعد أن رأى تمرد القبائل يزداد على الإمام : الملايين العطاش المشرئبة بدأت تقتلع الطاغي وصحبه سامها الحرمان دهراً لا يرى الغيث إلا غيثه والسحب سحبه لم تنل جرعة ماء دون أن تتقاضاه بحرب أو بغضبه ظمئت في قيده وهي ترى أكله من دمها الغالي وشربه ليت شعري أي شيء كان يخشاه في دنياه لو هادن شعبه هاهو الشعب صحا من خطبه بينما الطغيان يستقبل خطبه يمكن القول: إن من أهم مواقف الزبيري حزنه من معارضيه شباب المناضلين وقلة تجربتهم تجاه نقدهم لأداءات الجيل الذي سبقهم وهم من الذين انصهروا في واقع الخمسينيات السياسي والفكري خلافاً للزبيري وجماعته بالطبع. ولقد قال لهم وعنهم الزبيري: أيها الغاضبون من ثقة الشعب بنا والمؤلبون علينا أيها المرهقون يأساً وغماً وانهمكاً في هدم ما قد بنينا. واضح طبعاً أن الجميع ثوار لكن الرؤية اختلفت وهذا من الطبيعي.. ولقد كان الزبيري في صراع مع الشباب الذين حد تعبير البردوني لا يرون ما كان ثورياً في الأربعينيات ثورياً في الستينيات لتسابق التغيرات في الشارع السياسي والثقافي. ولهذا كانت معركة الزبيري مع الثوريين القوميين والأمميين أحر من صراعه مع الإمام كما يؤكد البردوني لأنه كان يستهدف وضعاً متفقاً على سوئه أما كيفية البديل فهي مناط الاختلاف.. والاختلاف على الكيفية - بتعبير البردوني أيضاً - أعنف من الاختلاف على المشروع جملة.! إجمالاً نستطيع ان نشخص شخصية الزبيري بأنها ذات هموم وطنية عالية وتوفيقية نبيلة لا تفرح بالحرب بينما كانت في اليمن مصدراً للثراء بين معظم المقاتلين القبليين في الصفين الجمهوري والملكي ما يجعلهم يعملون على تسعيرها أكثر خصوصاً وأن لكل جبهة ثروة ودولة برأي واحد من أهم دارسي الزبيري هو العلم الأكبر عبد الله البردوني الذي قسا عليه كثيراً في عديد مواقف فيما أنصفه كشاعر وكثائر بالمثل باعتباره من أهم الشخصيات العظيمة في تاريخ اليمنيين المعاصر على الإطلاق. يقول البردوني: تحت هذا الزمن الهادر سعى الزبيري إلى الإصلاح بين المتحاربين فرأوه أقوى نظلة لأنه أحد أركان النظام الجمهوري فأعلن الزبيري دعوة السلام بين اليمنيين فاتهمته القوى الثورية بالملكية بدعوى انه قبل قيام دولة إسلامية. ولما رفضت الجمهورية تغيير اسمها وشعاراتها ارتأى الزبيري قيام مؤتمر عمران، ولما أخفقت قراراته لجأ إلى قبيلة برط وشكل حزب الله فتلمست القوى المحاربة هذا الحزب وإمكان تحوله إلى جبهة ثالثة تملك أموالاً وسلاحاً فتوافدوا على قبيلة برط معلنين ولاءهم لحزب الله. هنا وصلت التجربة بالزبيري إلى أخطر مأزق بدون ان يستبصر أيه عاقبة ولعله أراد كما يقول البردوني أن يجرب القوى التي أسقطت مشروع 48 م والتي عدها القاعدة المنيعة للثورة بدليل انها كانت القوى الغالبة في 48 م وتصور ان الإمام احمد انتصر بهم، وغاب عنه مكامن الإمام احمد وقواه الحقيقية التي كانت خفية والتي أغلبها من الطبقة الوسطى في المدائن والأرياف وكان قادته من الشيوخ الصغار الحركيين وأمثالهم من الموظفين والتجار وهؤلاء هم الذين حققوا انتصاره. أما شيوخ القوى المحاربة العريقة كما ورد في كتاب الزبيري من أول قصيدة الى آخر طلقة فحاولوا ان يقوموا بمساعي صلح بين إمام الدستوريين عبد الله الوزير بصنعاء وبين الأمير احمد بحجة، وقبل الوزير مساعي أولئك السبعة على حين احتجب الأمير احمد عن مقابلتهم ريثما يتدبر سير الأحداث فلا قبل تلك المساعي ولا رفضها فكان هذا مكان احتمال، على حين كانت قواه التي أعدها مدة عشرة اعوام تحقق مهماتها في تشديد الحصار على صنعاء وخلخلة القوى داخلها ونشر الإشاعات لأحمد في سائر المدائن والقرى، وفي الوقت الذي كاد الصلح ان يبلغ غايته وكان المصالحون يترصدون الميزان ومن الذي سوف يرجح، وبينما هم في هذا الترصد والأمل في جبهتين أسقطت قوى احمد نظام الانقلاب وكان الزبيري بعيداً عن هذه التيارات وتلك القوى الخفية والواضحة، لأنه كان منغمساً في دعوة الإصلاح السياسي من وجهة دينية سياسية. وعندما أراد ان يجرب القوى الحربية القبلية وإمكان قيادها بالتوعية السياسية وبالدعوة الوطنية أمكن أن يعرف أن هؤلاء أصحاب الوزن الثقيل ولن يسود السلام إلا باستمالهم قبلياً، وفي آخر أيام عمره تكشفت خيبة مسعاه ووقع هدف النقيضين الجمهوري والملكي، الجمهوري لأنه أنشأ معارضة قبلية أيام الحرب، الجمهوري والملكي لأنه استحدث دعوة جديدة يمكن ان تقتاد القبائل من قبضتهم إلى قبضة السياسة الدينية الوطنية.! وهكذا.. تحت ذرور الربيع الواعد تكالبت عليه القوتان. ففي أول أبريل 65م رصدته أربعة كمائن، كل كمين من ثلاثة قناصة، فإذا أخفق الأول تلاه الثاني ثم الثالث، فتم القبض على الكمين الأول عند دخوله قبيلة برط بدلالة وسطاء من القبيلة، وتمكن الكمين الثاني من إنجاز المهمة بمهارة فائقة إذ التقطه القناصون وحده من بين خمسة، ولم يلتفتوا على الزبيري إلا محتضراً دون أن يشاهدوه هارباً أو واثباً، وفي ظهيرة اليوم الأول من أبريل ارتدى دمه الزكي، ولفظ أنفاسه مضرجاً بالشهادة معبأ بعبير الاستشهاد، وبهذا اليوم اختتم شوط عشرين عاماً من النضال الصادق والبراءة الفجرية والنقاوة المثقفة بأنواع المعارف إلا معارف السياسة. هذا ماوصف به البردوني الزبيري بينما يحمل كلامه دلالات كبيرة عن شخصية فائقة الحضور في تاريخنا الثقافي والكفاحي . [email protected]