دائماً هناك حديث خاص بيني وبين المدن التي أمرُّ بها، فبعض المدن تحب أن تكون غامضة مثيرة، تشعل فتيل الفكرة لدى الزائر، وبعضها صامتة تحرص على أسرارها كثيراً، وهذه غالباً تنجح في أن تكون مثيرة إلى حد الوله، بالرغم من أن زائرها قد يعلم أنها تحتضن الكثير من عنفوان القلق. في ليلة من ليالي السفر؛ زرت تلك المدينة التي يقولون إنها لا تنام، كنت أتمشّى في شوارعها، وأنا أراهن على أنها في لحظة ما ستتعب وتنام، كنت أنظر في وجوه الناس، وأرى الابتسامات تنتشر يميناً ويساراً، وبالرغم من ذلك لا أعرف لماذا شعرت أن تلك المدينة الساحرة قصدت أن تخبرني كم هي حزينة، وبقيت تحدّثني عنها حتى نمت أنا، وخسرت الرهان. وأخرى آثرت أن تترك الصراع للإنسان الذي كبّلته الهموم وسفاسف الأمور بالرغم من أصالته وتاريخه، وآثرت هي أن تشغل فكرها وقلبها بالصلاة، والدعاء له بالسلامة. ومدائن أخرى تنام على شواطئ الحزن والأسى، تنفخ زفرات الصبر الطويل من ذلك التاريخ الجاثم على صدرها لعقودٍ لا تكاد تنتهي، ولا قلب ينصت لأنين أرصفتها، وحنين جبالها سوى قلبٍ حالم بصمت. أما مدينتي، فهي تراتيل مقدّسة لا يستطيع من يحيا بها أن يتجاهل هواها، وهي آخر أنفاس الغرام حين يغفو، وأول أنفاس الندى حين يصحو. كل أنثى مدينة، وكل مدينة أنثى، لها سحرها وفتنتها وعشاقها، وقلّ أن تجد عاشقاً يجيد لغة معشوقته مع صمتها السرمدي وخجل البوح الذي يأسرها. حديث الوفاء عند أنثى الأزل “آزال” له مذاق مختلف، فهي التي تستطيع أن تعرف حزن عاشقها من نظرات العيون، وهي التي لا تجيد الفرح إلا به، ولا ترضى إلا أن تكون شريكاً له في أحزانه. صنعاء هي المدينة التي لم أشعر يوماً أنها حزينة يوم عيد، أو سعيدة وقلب أهلها حزين، بالرغم من أن أهلها من أكثر شعوب الأرض صبراً على المكاره والمحن، ومن أكثر من غدرت به الأيام وصروف الدهر، إلا أنها وعشيقها يجيدان تقاسم الحزن حتى تقل حدّته، والفرح حتى يزهو وينتشر في أرجاء الأمل. جدران صنعاء وشوارعها تتحدّث عن الحياة والغد والأمل القادم، لها أعين لا ترى إلا السحب المحملة بالخير الكثير، وكلما خاب أملها بسحابة ما؛ زاد أملها بالله، خالق السحب وآمرها. هي تعلم جيداً أنها وعاشقها مختلفان عن كل عشاق الكون، لذلك فإن المتربصين بها كثر، هي أميرة نبيلة جار عليها الزمان الذي لا يجور إلا على من يأنفون الرذيلة والسير في درب الغدر والعار لتحقيق أهدافهم. صنعاء مدينة التاريخ الأولى؛ لا تأبه للخونة الراحلين بصفحات الثراء المفلس أخلاقاً وديناً، لذلك بقيت هي الرمز عابقة بشموخ التاريخ الذي لا يجيد قراءته إلا قلب وطن، تحكي عن طُهرها جدرانها العريقة وشوارعها الحجرية الحانية، وأنفاس الفجر المشبعة بالندى.