ترى من يخفي مؤلفات البردوني التي كان أعدها للطباعة قبل وفاته -والأخرى التي كانت تحت الطبع أيضاً - ولماذا؟ ما يزال السؤال عالقاً ومستنفراً لا يغادر كل محبي الشاعر اليمني النوعي الفذ منذ 15 عاماً . ذلك أن دواوينه وكتبه الأخيرة التي كان أنجزها قبل رحيله، لازالت مغيبة على نحو ملغز، إضافة إلى مذكراته وروايتيه اللتين لم تخرجا للضوء منذ وفاته في 30 أغسطس 99 م. وخلال الأعوام الأخيرة توالت النداءات من مثقفين يمنيين مستفسرة عن ارث ضمير اليمن الكبير ، لكن كالعادة لا احد يستمع لا في وزارة الثقافة ولا في اتحاد الأدباء ولا حتى أرملته وبقية الورثة . كما أن كافة قيادات ومنتسبي وناشطي الهيئات والمنظمات الحقوقية والثقافية والوطنية في اليمن لم تتفاعل كما ينبغي .. يستمر الأمر إذاً كعار على الجميع للأسف . بينما لم يفكر احد في الاضطلاع بالمسئولية التاريخية والأخلاقية للكشف عن مصير إرث شاعر ومفكر اليمن العملاق .واقع الحال انه بعد مضي كل هذه الفترة على وفاته لا يعرف اليمنيون إن كانت مؤلفاته الأخيرة المختفية رهناً لصراعات الإرث والأسرة أو لإهمالهما مثلاً، أم أن شخصيات نافذة في نظام علي عبد الله صالح هي من تحوز وتستأثر عليها بشكل بوليسي مجحف ودنيء كنوع من العقاب على مواقفه السياسية والفكرية التي كان معروفاً بها ضد النظام . الحاصل أن هذا التغييب يعد جريمة مروعة بحق البردوني، كما بحق الذاكرة الثقافية اليمنية أيضاً . كان يجب على الأقل منذ مابعد ثورة 2011 م ، الإعلان عن لجنة تحقيق رسمية ومستقلة مشتركة لحسم هذا الأمر وعدم إبقائه عالقاً وإعلان نتائج ما تم التوصل إليه للجمهور أولاً بأول وبشفافية تقتضيها الأخلاق الوطنية والمسئولية التاريخية . كذلك يجب رد الاعتبار لواحد من أعظم شعراء العربية . وفي الحقيقة يتفاقم التخوف في أوساط محبي البردوني من أن يتم تحريف كتبه ومؤلفاته المختفية بهدف تشويه مواقفه على سبيل المثال ، إضافة إلى أن كتبه ودواوينه السابقة المعروفة أصلاً قد اختفت غالبيتها من الأسواق، فمنها ما نجده غالياً وبشكل نادر، بينما عرف عن البردوني أنه كان يدعم مؤلفاته ويطبع منها الكثير- ولذلك خصص قيمة جائزة العويس التي نالها عام 93 م لدعم مؤلفاته - ليحصل عليها الجمهور بسهولة تامة وبشكل رخيص جداً. أما الآن فإن ما يحدث هو التغييب المتعمد من أجل إبادة إرثه الثقافي والابداعي الهام . مع العلم ان الجهات الرسمية لم تفي بوعود قطعتها لتحويل منزل البردوني إلى متحف . والثابت أن البردوني-مواليد 29م- لطالما تعرض للإجحاف من قبل عصابات القبح وميليشيا الثقافة . لكنه صمد أمام مختلف الأهوال والإساءات التي حاصرته، تجاوز محنة السجن ، فأصدر 12 ديواناً شعرياً مابين عامي 61م و94م ، إضافة إلى مئات المقالات، و8 مؤلفات فكرية ونقدية هامة حول الشعر اليمني وفنون الادب الشعبي وقضايا ثقافية واجتماعية وسياسية يمنية مختلفة . كان لا يشابه كصوت قوي لم يتزلف لنظام أو لتيار على الإطلاق بل ظل رأسماله الحقيقي هم الناس، وفكرة اليمن الحديث وتقدم الثقافة وتطور المجتمع . انه الأعمى الأكثر استبصاراً في التاريخ الثقافي اليمني، ويعتبر بجدارة مصهر التنبؤات الذي لا يتكرر ، مستقرئاً في شعره ومؤلفاته العديدة النقدية والتاريخية والسياسية جذوة اليمن الحضارية التي عانت من التجريف والتشويه والمحو . عشق عبد الله البردوني اليمن بأعصابه كلها، وظل مهجوسا بالديمقراطية والعدالة والتحرر والتقدم-منذ وقت مبكر - رغم كل المرارات والخيبات والخذلانات ، فارضاً رمزيته الثقافية والإنسانية المستمرة على أفئدة كل اليمنيين الحالمين . كان من عباقرة شعراء الإنسانية القلائل؛ شديد الحساسية والفنية، حتى إن كلاسيكيته في الشكل الشعري كانت أكثر حداثة من ناحية المضامين ولا تزال.. كما كان رائياً خصباً لا مثيل له في كل تشخيصاته، ولعل مواقفه مشهودة ضد كل السُلط منذ ما قبل الثورة اليمنية الأم سبتمبر 62م وحتى رحيله الفاجع . في الشعر الكلاسيكي الذي كان آخر حراسه الكبار بامتياز مشهود ، استطاع ان يفجّر طاقات حرة طورت من الشعرية العربية بحيث انتقل من الصخب الى الهمس برجاحة التحولات العميقة وقدرته الفائقة على اجتراح الرهانات على التحديث .. لذلك كان منجزه الإبداعي محل اهتمام دراسات أكاديمية مرموقة نال أصحابها الماجستير والدكتوراة من جامعات يمنية وعربية .. في السياق ثمة إجماع نقدي على تميز شعرية البردوني بالنضج والتوهج والحماسة الخلاقة كما بالتقنية النوعية والفرادة والأصالة . على ان هذا الصراع بين القديم والجديد استوعبه البردوني بشكل مثير يدعو للإعجاب وللإجلال . فهو لم يترك القصيدة البيتية ، وفي نفس الوقت أجرى فيها مختلف التغيرات والتحديث –حسب حيثيات قرار لجنة التحكيم لجائزة العويس الثقافية – بحيث تمرد على قوالب الشعر المتوارثة، وانتقل بشعره إلى أساليب فنية غير مطروقة ، إذ «أدخل الحوار إلى قصيدته ، فوظف هذه الميزة، واستعملها استعمالا دقيقاً في إطار قصيدة متكاملة، متينة البناء، متناسقة في شكلها ومضمونها، والحوار بعد هذا وذاك عنصر من عناصر الدراما، كما أبدع في اللغة فاستخدم معجمه الخاص بعد رحلة شاقة في الاشتقاق والتوليد».. هكذا «قدم القصيدة العربية بوجه جديد وبروح عصرية، وآلف بين الإيقاع العريق والتحديث اللغوي، فجمع بذلك بين مزايا العمودية ومكتسبات الحداثة، فهو رمز لهذا النوع من الإنجاز الشعري المعاصر». على ان الموسوعية الفكرية الهائلة التي تجذر بها رغم الإعاقة هي ماجعلته يتحدى مجمل التدليسات الطارئة على التاريخ والفكر العربيين .فضلاً عن فرادة شخصيته وصلابته المبدئية في معركته الباسلة ضد التخلف والاستبداد . كان البردوني حالة فكرية وإبداعية إعجازية خاصة وناهضة في بيئة شديدة التخلف و التهميش خصوصاً مع اشتداد قبضة المركزية الثقافية العربية التي كانت تتمثل في القاهرة وبيروت وبغداد الخ . والشاهد ان كل الأنظمة المتعاقبة على حكم اليمن منذ ما قبل خمسينيات القرن الماضي كانت تهابه وتخشاه كموقف وكرؤيا . فهو من أكثر الذين استوعبوا الذات اليمنية والعربية والأممية أيضاً ، كما انه بمثابة وجدان معرفي زاخر بالتراث المتجدد وأهم الأحداث الكبرى في التاريخ والفكر . بالمقابل وتلك عبقريته الكامنة كان ممن يتجهون ناحية المستقبل متمرداً على كل المثبطات ، و بارعاً في إعادة الاعتبار الحضاري والجمالي لفكرتي الإنسان والوطن . يقول رفيقه الأستاذ عبد الباري طاهر نقيب الصحفيين اليمنيين الأسبق : لعل أهم ما يميز البردوني عن أبناء جيله وضعه الثقافة في مواجهة يومية ودائمة مع السلطة والسياسة، فهو من المثقلين العضويين الذين يرون في استقلال المثقف والثقافة عن السلطة الخطوة الأولى والضرورية لبناء أسس المجتمع، المدني، ورغم أن دواوينه الاثني عشر تضمنت نقداً عميقاً وواعياً للأوضاع وفساد السلطة وانحرافاتها إلا انها أكثر ما تكون بعدا عن المباشرة والجهر والتسطيح فقصيدة البردوني تحافظ على نمطٍ عالٍ من الفنية والإلغاز والإيجاز والترميز والجمال . ويضيف : كان البردوني ككتاب مفتوح عرك الحياة وأمتلأت نفسه بتجارب عديدة ومتنوعة ، شديد السخرية بكل ما حوله، يكره البلادة والنفاق والاستخذاء، ويمقت المتمسك بأعتاب الحكم ، عاش شظف العيش وفقراً إلا من حب الناس له، والتفافهم حوله .إنه شخصية عصامية وصدامية بكل ما تحمله الكلمة من معان ودلالات. تمثل سيرة البردوني سيرة حياة استثنائية مفعمة بالشغف وجالبة للادهاش ، البردوني الذي اصدرت اليونسكو عنه عملة فضية تكريمية على مستوى العالم باعتباره الضرير الذي تجاوز الإعاقة ، لا يملك المرء سوى ان يستحضره باعتزاز في ذكرى وفاته . وبالرغم من الواقع التيئيسي الصعب ظل يدأب على الأمل داعياً للحريات وللحقوق ،كما للمواطنة وللديمقراطية ، وللسلم وللعدالة ،ومعلناً في الوقت ذاته حروبه المقدسة ضد كل مايهين ويقهر الإنسان وتطلعاته. البردوني الذي كان من أوائل الذين سعوا لتأسيس إتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين، وقد انتخب رئيساً للاتحاد في المؤتمر الأول العام 70م . حينها كانت القضية المركزية للاتحاد المكون من مثقفي الشمال والجنوب كأول كيان نقابي موحد أثناء التشطير هي الوحدة اليمنية ، بينما كان لليمن نظامان ودولتان يخوضان صراعات لاتحد . المعنى أن المثقفين اليمنيين توحدوا قبل الساسة وكانت تضحياتهم جبارة لاشك ، وكان البردوني زوادة الحلم الكبير . في حوار رائع معه قال البردوني : «لم أعترف بالعمى في أي لحظة في حياتي». وبالتأكيد نستطيع من خلال هذه العبارة الإصرارية الخلابة فهم قيمة ودلالة البردوني بشكل أوضح واشمل . إجمالاً ، يشعر اليمنيون بالعار كله ومؤلفات البردوني تشح وتضمحل في المكتبات والأكشاك ، كما لم تتكرر طبعاتها منذ وفاته. والأنكى بالطبع انه لايوجد شارع واحد باسمه مثلاً أو تمثالاً يليق بدوره الريادي التنويري كأقل ما يمكن من تكريم ، عوضاً عن ان مؤلفاته الأخيرة التي اعلن انجازه لها قبل وفاته مازالت في مصير غامض حتى اللحظة، لم تر النور، وبالذات ديوان «ابن من شاب قرناها» ورواية «العام ميمون» و كتاب «الجمهورية اليمنية» الذي يتضمن موقفه من حرب 94م والمواقف المتباينة التي قادت لها وأزعجت عديدين في السلطة حين صرح عنه في حوار صحفي أواسط التسعينيات ،وهو الجزء الثاني من كتابه المرموق «اليمن الجمهوري» الذي يعتبر اشهر كتاب في الفكر السياسي اليمني وتحولاته . [email protected]