دأب العرب كغيرهم من شعوب العالم على التدوين، وعندما نتحدّث عن التدوين يتبادر إلى الذهن التدوين النصِّي المُتَّصل ضمناً بالتدوين الشفاهي كما هو الحال في المرئيات والشواهد التاريخية التي عاش فيها وعرف أبعادها أحد المشاركين في تلك الحوادث، كما يتبادر إلى الذهن نوعان من التدوين: التدوين الوصفي الدقيق الذي لا يتجاوز تخوم المشاهدة المقرونة بالوصف والتوثيق، والتدوين المقرون بالتفسير والتأويل، وهو ذلك النمط الجدالي الأخطر الذي برز في علوم الكلام عند المسلمين، كما عند الثقافات الدينية الأُخرى، مما لسنا بصدده هنا. ما يهمّنا هنا هو الإشارة إلى أن علم التدوين الوصفي النمطي يبدو في ظاهره تسجيلاً تقليدياً لشواهد ومشاهد وأوصاف تتم معاينتها ورؤيتها ومعرفة خواصها؛ لكن الأمر يتجاوز ذلك بمراحل، فهذا النمط من التدوين يتضمَّن طيفاً واسعاً من النواظم الثقافية الأنتربولوجية؛ تلك الثقافة الأُفقية التي تنطوي على أبعاد سيكولوجية وبيولوجية وأُخرى ذات علاقة بالبيئة وخصائصها، كما تنطوي على إشارات لمَّاحة في تلك الخصال المميزة، وميزاتها النسبية المقرونة بطبائع البشر المُنتمين إلى هذه البيئة أو تلك، وكذا الحيوانات والنباتات، بالإضافة إلى الجغرافيا السلوكية والثقافية ذات الصلة بالمكان والتداعيات النابعة من الدين والأيديولوجيا والأعراف. من هنا نستطيع قراءة البُعد السيكولوجي المهم في كتاب “البُخلاء” للجاحظ، والبُعد الخاص بعلوم الهيئة في كتب الطب وغوامض المعادلات الرياضية والكيميائية، كما نرى في تاريخ ابن خلدون معنى العلاقة بالمكان وكيفية انعكاس خصال المكان على البشر. إذا كان هذا النمط التسجيلي التدويني التاريخي مقروناً بالقلم والمحبرة والمشاهدة والذاكرة، فإننا اليوم نتوفَّر على أدوات متجدّدة ومتنوّعة، وأعتقد جازماً أننا بحاجة إلى استعادة ثقافة التدوين في أُفق يتَّسع للكاميرا والصورة والوسائط المتعدّدة، فما نراه اليوم سيندثر غداً أو بعد؛ بل إن معادلة الاندثار الفعلي للظواهر المعروفة تتسارع بوتيرة صاعقة، والشاهد على ذلك هو أننا نتوفَّر دوماً على تلك الصور الفوتوغرافية المُلتقطة بالكاميرات الفيلمية التي كانت الصور تخضع فيها للتحميض والطبع الورقي كمراحل أساسية في الحصول على الصورة، فيما نفقد يومياً آلاف الصور الملتقطة بالنظام الرقمي للكاميرات الحديث، كما تختفي البومات الصور التقليدية في منازلنا لنعرف فداحة العبور الضوئي فوق جسر الحداثة الماحقة للذاكرة. [email protected]