من النثر الفني القديم إلى النثر الرقمي الجديد.. دراسة في نظام التدوين والمدونات
2 نظام التدوين والكتابة التفاعلية: 1 مفهوم التدوين قديما وحديثا: الأسئلة التي يمكن أن نوجهها اليوم إلى التدوين والكتابة الرقمية قد تكون هي نفسها الأسئلة التي وجهت من قبل إلى الكتابة الورقية عندما استعملت الأقلام والمحابر والخطوط لأول مرة في تاريخنا العربي والإسلامي، عندما انتقلت حضارتنا من طور المشافهة والتداول المعرفي عن قرب إلى طور الكتابة والتراسل المعرفي عن بعد. ويستفاد مما ورد في المعاجم اللغوية العربية القديمة أن مواد الكتابة كانت أكثر تداولا وأصالة من مواد التدوين، فقد دخلت كلمة التدوين إلى الثقافة العربية عن طريق الاقتراض اللغوي من الفارسية إلى العربية مثل كثير من الكلمات الحضارية التي اغتنت بها اللغة العربية إبان صدر الإسلام، وفي العصر العباسي خصوصا عندما بلغ التلاقح العربي الفارسي أولا والعربي التركي ثانيا أوجهما كما يدل على ذلك شعر العباسيين ونثرهم. وإن عودة مصطلح التدوين في التداول اللغوي العربي المعاصر إلى الظهور من جديد لأمر ملفت للانتباه، ولكن لم تعد له صلة قوية بما درجنا عليه في الاستعمال القديم كأن يتعلق الأمر مثلا بديوان الشعر، أو ديوان الإنشاء والرسائل، أو ديوان الجند والقضاء وغير ذلك مما يفيد معنى توثيق المعلومة وتثبيتها في مكان معلوم لأجل غير معلوم. وإنما انتقل الاستعمال المعاصر لكلمة التدوين من التوثيق الخطي عن طريق الكتابة اليدوية أو الآلية على مسطح ورقي إلى التوثيق الرقمي على مسطح بلوري إلكتروني مشع بالأضواء والظلال والألوان والحروف والرموز والصور على اختلاف أشكالها وأحجامها وحركاتها. ومن هنا صار التلازم قويا بين التدوين في شكله الجديد وبين الخبرة التقنية المرتبطة بعمل أجهزة الحاسوب وأنظمة تشغيلها وإعادة تهيئتها في كل مرة بعدد متجدد لا يحصى من البرمجيات وقواعد التحكم الإلكتروني. وهو نفسه التلازم الكلاسيكي بين الكاتب الورقي وما كان يحتاج إليه من قرطاس وحبر وأقلام. غير أن التدوين الإلكتروني يتفوق على كل وسائل التدوين التقليدية السابقة في مرونته وفي قوة تدفقه، وسرعة انتشاره لأن المدون هو المنشئ، وهو المرسل لما يدونه في نفس الوقت إلى كل بقاع الدنيا حيثما وجد حاسوب متصل. ومن هنا فإن مدد التدوين الإلكتروني لا ينفد أبدا مادامت أجهزة الاتصال الرقمي موصولة مع بعضها البعض، بينما مدد التدوين الورقي قد ينفد أو يقل أو ينقطع نهائيا؛ وخاصة عندما تعوز الكاتب الورقي وسائله أو تنفد طبعة ما من سوق الكتب ومن المكتبات، أو عندما يعز وجود كتاب ما، أو عندما لا يتاح الاطلاع عليه إلا لفئة محدودة أو مخصوصة. والمدون الرقمي فوق هذا، يتمتع بقدرة هائلة على التحكم في شكل مدونته وفي محتواها سواء قبل إرسال هذا المحتوى على الشبكة أو حتى بعده، وهذا ما لا يتهيأ للكاتب الورقي الذي يتعذر عليه استرجاع ما نشره إلا بصعوبة شديدة، كما أنه لا يمكنه استدراك وتنقيح ما فاته إلا من خلال طبعة جديدة منقحة مكلفة للجهد والوقت والمال. وقد ينطبق هذا الوضع أيضا حتى على المدونين المنتسبين لبعض المواقع والمنتديات والصحف الالكترونية عندما تصبح كتابتهم ملكا للموقع أو المنتدى أو الصحيفة الإلكترونية، فتبقى كتاباتهم محتفظة بنسقها الأول، ولا تتاح لصاحبها إمكانية استرجاعها مرة أخرى أو تنقيحها أو حذفها من موقعها على الشبكة إلا بصعوبة شديدة، أو بإذن خاص من المدراء والمشرفين.
2 القراءة الرقمية أو الافتراضية: وبما أن التدوين الافتراضي أو الرقمي الذي يكون في مدونة أو في موقع يتيح لمن يمتلك سر الولوج إليه عبر منصة التحكم الخاصة المحمية بالأرقام السرية، إمكانيات هائلة للتطوير والمراجعة الذاتية لكل ما يكتبه أو يعرضه في كل وقت وحين، فإن القراءة الرقمية نفسها تأخذ منه كثيرا من خصائصه وملامحه؛ ذلك أن أثر التدوين الافتراضي يظهر بشكل سريع على زوار الشبكة من خلال الردود والتعليقات التي تكاد تكون آنية؛ بحيث لا يفرقها عن تاريخ الإرسال غير دقائق أو ثوان معدودة. ومن هنا فإن حركتي الإرسال والاستقبال الرقميتين تكونان في حالة تزاوج مستمرة، بدل أن تظل إحداهما معزولة أو عقيمة أو متراخية في الزمان والمكان، كما هو حال الكتابة الورقية. غير إن نظام القراءة الافتراضية رغم مزاياه التفاعلية الكثيرة عند التصفح يبقى في جانب كبير منه نظاما مغشوشا لأنه يتجه دائما صوب الأعلى لا صوب الأدنى، وصوب الظاهر على سطح المدونة أو الموقع لا إلى ما وراء ذلك من الصفحات المتوارية، لأن مبدأ الطراوة هو المبدأ المعمول به عموما في سوق التداول المعرفي الإلكتروني، بحيث تكون عيون الزوار مركزة على التواريخ الحديثة للإدراجات، تماما كما تكون عيون الزبناء مركزة على تواريخ إنتاج المصنوعات الغذائية وعلى تواريخ انتهاء الصلاحية. وكلما تطاول العهد بالمدرجات الرقمية على الشبكة إلا وصارت نسيا منسيا، حتى تظهرها على السطح من جديد محركات البحث بطريقة عشوائية. ويرجع السبب في ذلك إلى طبيعة بناء المدونات والمواقع حيث تمتد مدرجاتها على شكل ذيل أو طابور طويل بخلاف نسق المطبوعات الورقية، فأول محتوى يظهر على صفحات المواقع والمدونات هو آخر ما يدرج عليها إلى أن تتوارى الإدراجات القديمة زمنيا بعيدا بعيدا. وإذا ما حذف إدراج واحد منها فإن الإدراج التالي يحتل مكانه ويقترب درجة واحدة من السطح. وكأن الزمن الرقمي هنا غير الزمن الطبيعي. وأغلب المواقع والمدونات تكتفي في الغالب بإظهار آخر الإدراجات ، أما الإدراجات المتوارية خلف الصفحة الأولى أو الواجهة الرئيسية ولو بفارق ثانية، فيمكن إظهارها أو استدعاؤها إلى السطح من خلال الضغط على زري: السابق والتالي، أو من خلال روابطها المختصرة الموجودة في الأعمدة الهامشية لكل صفحة إلكترونية.