من النثر الفني القديم إلى النثر الرقمي الجديد.. دراسة في نظام التدوين والمدونات الحلقة (1) عبد اللطيف المصدق
هذا الموضوع هو في الأصل مداخلة في يوم دراسي نظمته شعبة الدراسات العربية بكلية الآداب في مراكش، بتنسيق مع طلبة الماستر: وحدة الإدب العربي القديم: أسسه اللغوية ومناهجه النقدية، احتفاء بالأستاذ الجليل الدكتور لحسن بوتابيا، يوم فاتح يوليوز 2010. وكنت في وقت سابق قد قدمت في حق أستاذنا الفاضل الدكتور لحسن بوتابيا مداخلة متواضعة تحت عنوان: (طبيعة التكامل والتجاوب بين حقيقة الكتاب وحقيقة صاحبه)، أقصد: كتاب "المفاضلة بين النظم والنثر"؛ وذلك في لقاء ثقافي عقدته شعبة اللغة العربية في كليتنا مستهل سنة 2004، لتقديم قراءة ثلة من الأساتذة الكرام في مضمون هذا الكتاب القيم وفي الهوامش المحيطة به، والحقيقة أن كثيرا من قضايا النثر العربي القديم الخلافية كمسألة المفاضلة تتصل مباشرة برسم الحدود المشتركة بين الشعر والنثر، وقد بقيت تلك الحدود الوهمية القائمة في أذهان أصحابها من النقاد والبلاغيين موضع نزاع حتى اليوم، وستبقى كذلك بحكم الميراث الأدبي المتداول باللغة العربية ما بقي الشعر والنثر. وقد كان من الأولى، وحسما لخوض الخائضين في يم المفاضلة الذي لا ساحل له، كما أومأ إلى ذلك ابن عبد الغفور الكلاعي الأندلسي في كتابه إحكام صنعة الكلام، أن يُقطع دابر هذا الخلاف منذ اللحظة الأولى لظهوره ويُحل حلا بسيطا سلسا عن طريق تقريب المسافة بين الشعر والنثر في الزمان والمكان قدر الإمكان. والتقارب بين الشعر والنثر لا يمكن أن يتحقق بشكل طبيعي إلا في بيئة الأدباء المبدعين بالأصالة، وليس في بيئة النقاد المنظرين بالتبعية لأحدهما أو لكليهما، وهذا ما تحقق فعلا على يد كثير من الأدباء الأفذاذ شعراء وكتابا، بعيدا عن كل المحاذير والتبريرات التي أملتها أوهام النقاد القدامى لفرض عزلة إجبارية على الشاعر والكاتب معا حتى يبقى كل واحد منهما أسير فنه واقفا في مكانه وملتزما بالحدود التي رسمت له. والأمثلة كثيرة على أشكال التراسل القائمة بين الشعر والنثر في مختلف عصور الأدب العربي، وهذا قبل أن تسقط نظرية النوع الأدبي الخالص من غربال النقد الحديث بشقيه الغربي والعربي. وقد يكفي هنا أن أضرب مثالين فقط عن وهم الجدار العازل بين فني الشعر والنثر في أدبنا العربي القديم؛ أحدهما من خلال شعر بشار بن برد، وهو من هو في البدايات الأولى لحداثة الشعر العباسي. وقد تجرأ فألبس بعض مقطوعاته الشعرية الغزلية ديباجة الرسالة النثرية فجاءت أبرع، وصارت لها قوة مضاعفة من جهة بلاغتي الشعر والنثر معا عندما اجتمعتا دفعة واحدة في حيز واحد، يقول في إحداها: منَ المشهورِ بالحبِّ إِلَى قَاسِيَة ِ الْقَلْبِ سَلاَمُ اللّه ذِي الْعَرَشِ على وجهكِ ياحبِّي فأمَّا بعدُ يا قرّة َ عيني ومنى قلبي ويا نفسي التي تس كُنُ بَيْنَ الْجَنْبِ والْجَنْبِ لقدْ أنكرتُ يا "عبدَ" جفاءً منكِ في الكتبِ أعَنْ ذَنْبٍ وَلاَ واللَّهِ مَا أحْدَثْتُ مِنْ ذَنْبِ ولاَ والله ما في الشَّرْ قِ منْ أنثى ولاَ الغربِ سِوَاكِ اليوم أهواها على جدِ ولا لعبِ
ويقول في أخرى: من المفتون بشار بن برد إِلى شَيْبَان كَهْلِهِمُ ومُردِ فإن فتاتكم سلبت فؤادي فنصفٌ عندها والنصف عندي والأمر نفسه ينطبق على معاصره أبي نواس وعلى كثير من الشعراء، وخاصة الشعراء الكتاب. أما ثانيهما فينطبق على رسالة (ملقى السبيل) للمعري التي وفق فيها ببراعة بين أوزان الشعر وقوافيه وبين فواصل النثر وأسجاعه. وقد اقتدى بصنيعه هذا المطرز بطعم النثر وسدا الشعر كثير من الكتاب اللاحقين وخاصة الأندلسيين منهم. وقد كان بودي أن أسترسل في موضوع تقريب المسافة بين الشعر والنثر نظريا وأتوسع في سرد أمثلتها التطبيقية خاصة، غير أني أجدني مضطرا إلى التوقف عند هذا الحد، لأنني أود في الجزء الثاني الأساسي من هذه المداخلة أن أصل النثر العربي القديم الذي ورثناه بما هو مستجد ومتداول اليوم افتراضيا أو رقميا على شبكة الاتصال العالمية. ترى، كيف باستطاعتنا اليوم أن نقرأ النثر العربي في صورته الجديدة التي يكتب بها العرب والناطقون بالعربية على شبكة (الإنترنت) من خلال المواقع الشخصية، ومن خلال المدونات والمنتديات، وعبر شبكات التعارف الاجتماعي العالمية، وبواسطة البريد الإلكتروني؟، ثم كيف يمكن أن تختلف الكتابة الرقمية متعددة الاتجاه عن الكتابة الخطية القديمة أحادية الاتجاه؟، وما أثر التقنيات الحديثة على كل ذلك؟. والجواب عن هذه الأسئلة الآنية التي يتطلبها وقتنا الحاضر هو ما سنسعى إلى توضيحه باقتضاب من خلال تحليل وشرح نظام التدوين الرقمي والكتابة التفاعلية. وقبل الدخول في تفاصيل هذا الموضوع لا بد في البداية من تحديد أهم العوامل المفصلية في تاريخ تطور النثر العربي الفني بعد العصر الجاهلي. ويمكن أن نجملها في أربعة: 1 القرآن الكريم، الذي ارتسم في أذهان الكتاب وامتزج بأساليبهم طوال مراحل تطور الأدب العربي المنثور، وقد كان حفظ القرآن الكريم، كما هو معلوم لدى المهتمين بنقد النثر، ضروريا ليترشح المبتدئون إلى وظائف الكتابة الصغرى قبل أن يرتقوا في مدارجها التي قد تصل بأحدهم إلى رتبة الوزارة، ولأستاذنا الفاضل المحتفى به في هذا اليوم الدراسي المبارك جهود كبيرة سابقة في بحث هذا الموضوع في أطروحته الجامعية المرقونة " أثر القرآن في نشأة النثر الفني وتطوره إلى العصر الأموي". ونتمنى أن يخرج هذا العمل الأكاديمي إلى النور مطبوعا كما أخرج كتاب المفاضلة وكتاب أخلاق الوزيرين وكتاب المنهج الإسلامي في رواية التراث الأدبي وتدوينه.
2 مؤسسة ديوان الإنشاء التي احتضنت الكتابة الفنية الخطية وتعهدتها بالرعاية التامة وبالإنفاق السخي وجعلتها جزء لا يتجزأ من المدنية الإسلامية. وقد اقترن وجود هذه المؤسسة في الزمن العربي القديم وإلى وقت قريب من عصر النهضة العربية الحديثة بظهور مجموعة هائلة من الكتاب المتخصصين الذين خدموا الدول الإسلامية الحاكمة شرقا وغربا بأقلامهم باقتدار هائل، وحولوا الكتابة إلى عمل خطي احترافي غاية في التنظيم والدقة والجمال، كل كاتب حسب استعداده واختياره في نهج مسلك فني خاص به.
3 الصحافة والمطبعة، أثر الصحافة والمطبعة على النثر العربي القديم، عند ظهورهما أول مرة في عالمنا العربي يمكن أن نشبهه بأثر الحداثة الشعرية العربية على القصيدة العمودية؛ فالشعر الحديث كما النثر الصحفي حاولا التخفف منذ ولادتهما الأولى من عبء القواعد الجمالية والأصباغ الفنية التي حرص عليها الشعراء والكتاب قديما سواء بسواء. وكان من النتائج المباشرة لهذا التحول الجديد انفصال خط التحرير المقالي على أعمدة الجرائد والصحف تدريجيا عن إيقاع النثر الفني المتناسب حتى آل وضع النثر العربي إلى ما هو عليه الآن في نشرات الأخبار العربية من المحيط إلى الخليج، إذ صار النثر العربي اليوم متأخرا عن النثر العربي القديم بمسافات فنية وجمالية بعيدة، وصارت بينهما هوة سحيقة يصعب ردمها، إن لم يعد الاعتبار لبلاغة النثر الفني المتناسب.
4 الإنترنت ووسائط الاتصال الحديثة، وهو الموضوع الأساسي لمداخلتنا هذه. وسنعرض هنا باختصار شديد لنقطتين مهمتين لهما علاقة بما نحن بصدده. 1 أثر الإنترنت في تعميم المعارف وتغيير عادات القراءة والكتابة الكلاسيكيتين: لعل أهم ما يميز محتوى الإنترنت في زمننا هذا أن الناس جميعا يوجدون منه على مسافة واحدة. وهي المسافة الفاصلة بين ضغط زر البحث وإظهار المتصفح الإلكتروني أو المحركات الرقمية للمعلومات أو المواضيع المبحوث عنها. وهذا رغم تباعد الناس في المكان حيث يكونون عند أطراف حواسيبهم المتصلة، ورغم تباين ألسنتهم وألوانهم وأعمارهم ومراتبهم، واختلاف أنماط عيشهم وتفكيرهم، إذ لم يحدث في أي عصر من عصور المعرفة الإنسانية السابقة أن كانت العقول البشرية، بما ضمت من فكر وشجون وخيال، متصلة مع بعضها البعض كل هذا الاتصال. وقد بدأت شبكة الإنترنت في الأصل كتطبيق عسكري صرف في ستينيات القرن الماضي إلا أنها سرعان ما ألقت بظلالها على كل جهات الأرض بالطول وبالعرض؛ فبوصول صبيب الإنترنت المتدفق على مدار الساعة إلى البيوت أصبح بإمكان كل واحد منا أن يؤسس مملكته المعرفية الذاتية وينشئ مكتبته الافتراضية الخاصة بجميع لغات العالم، على حاسوب متصل بالشبكة أو منفصل عنها أو على مجرد شريحة رقمية صغيرة الحجم تندس في الجيب مع قطع النقود وسلسلة المفاتيح. ولم تعد المشكلة اليوم في تحصيل الموارد المعرفية كما كان الأمر مع أسلافنا، لأنها أصبحت متاحة على شبكة الاتصال الدولي بكميات هائلة يفنى العمر كله قبل أن ينفد أو ينقطع القليل منها، وبسرعة اتصال خيالية، وخاصة مع الجيل الثالث للإنترنت، وإنما المشكلة الكبرى في تدبير تلك المعارف وجعلها ملائمة لمتطلبات الدراسة والبحث والتكوين الذاتي المستمر. لكن، ومع هذه الثورة المعرفية الكونية الهائلة لا زال الكثير منا في عالمنا العربي على الخصوص لا يثق ثقة كافية في المحتوى الرقمي لأسباب كثيرة تخص واقع البيئة الرقمية نفسها وما يحيط بمصادرها من شكوك وظنون مرتبطة بطبيعة الأشخاص الافتراضيين أنفسهم أيضا؛ من هم؟، وما حقيقة أهدافهم الكامنة وراء نشرهم وقذفهم بهذا المحتوى الرقمي الهائل في بحر الإنترنت الذي لا ساحل له. والسؤال المهم هنا هو: كيف سيكون واقع ثقافتنا عموما وواقع تعليمنا التقليدي خصوصا عندما تنتقل البشرية في المستقبل القريب من مستوى التعليم الملقن إلى التعليم التفاعلي، وتنقطع صلة الناس على هذا الكوكب بالدفاتر والأقلام وبفصول الدراسة وبالكراسي والطاولات والسبورة انقطاعا تاما.. ؟