يقول المفكر الفرنسي تزيفتان تودوروف في كتابه «تأملات في الديموقراطية والغيرية» إن المجتمعات والشعوب التي تشرب العهود والاتفاقات والمواثيق مداداً مبلولةً أوراقه هي تؤسس مداميك و تعجز عن تشييد نصُب فوقها لقناعتها المتبلدة بعدم استحقاق الآخر للاهتمام تتأصل لديها فكرة الإلغاء المدموغة بنفي المحايث واستناداً إلى تودوروف يأتي الشاب اليمني صلاح محمد الذي ذاع صيته مع بداية سبتمبر وأضحى خبراً لوسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة بين ليلة وضحاها حينما قهر استحكامات الجاذبية في عملية جاءت كنسق ثانٍ لما بدأه إسحاق نيوتن, فالفتى يصف الأشياء فوق بعضها بمنطق جديد مفاده وضع الأشياء والأحجار بتراص عمودي دون رابط كالإسمنت وغيره وبطريقة مبهرة بعد أن يتهجّى بحواسه وبوجدانه استدراكات أخرى لقانون نيوتن و باستشعار مثير للعجب خاصة أنه يؤسس لها مداميك صغيرة الحجم ويرص عليها أحجام كبيرة بقطع مختلف مدببة مما يبعث الرهبة والحيرة والتساؤلات وصلاح محمد شاب يمني ومن أبناء وطن يقف على مفترق طرق لكن ما أحدثه خطوة وصفها مراقبون وفيزيائيون بأنها قهر للمستحيل وبين تنظير تودوروف وتطبيق صلاح محمد مداً جديداً من الروابط بين الكلام والفعل على خيط من الإرادة تشرف لفتح نوافذ أجد للحياة كما أن بينهما مجتمعين بظروف وطرائق عيش لا تتوازى وعلى هذه الأسس قد لا يختلف اثنان على أن مؤتمر الحوار الوطني كان الأيقونة الأهم والعنصر الحساس في مصفوفة التسوية السياسية كخاتمة حتمية لبنود المبادرة الخليجية التي لا يُثار شك أن الحوار يمثّل فيها نافذة الخلاص الحقيقية للشعب والوطن لكون الأخير عملية ربط ورتق للفجوات المهولة بين الفرقاء من مختلف الأطياف السياسية والاجتماعية والثقافية والفكرية وهنا تكمن الأهمية القصوى للحوار بصفته يحتوي حزمة لخرائط طريق جادة في إعادة بناء الدولة وهيكلتها بمناظيم تكفل ترجمة انفراج تتلاقى حوله الرؤى والتصورات التي سهّلت التقارب في الوجهات وأسست لمساعٍ جديدة في الاحتكام لبحث إزالة التهديدات والأخطار من قارعة الوطن ومن قرارة النفوس والقبول بفكرة ترتيب حال البيت اليمني مبدئياً من الداخل ومن هذا المنطلق أتى الحوار وآلياته كرهان فريد لفك الانسداد الذي يعيشه بلدنا. إن إقرارات ومخرجات مؤتمر الحوار الوطني تمثّل منهجاً وضاءً وعادلاً لاستئناف الحياة والعيش بسُبل جامعة مانعة تفضي إلى حالة من التشارك المدروس والممنطق لإحلال عقد اجتماعي لا يشوبه شائب النزاعات والصراعات والإقصاء والمماحكات والاحتراب و في تنفيذ بنود الحوار نستلهم الطريقة المُثلى لصناعة المستقبل وهي البديل الذي لا بديل عنه سوى مزيد من التعقيد وسوء المصير لا سمح الله. وبالنظر إلى هذه المقررات والمخرجات التي هي بمثابة مواثيق إرشادية ملهمة تهجت المعاني والدلالات الرصينة كشكل أخير للتعايش الآمن على اعتبار أن هذه المخرجات مسودة يتم عليها تحديد الأولويات الوطنية مثل نوع الحكم وترشيده وتهيئة جيش خارج سيطرة الأفراد والعصبويات وإنتاج مصوغات للحقوق والحريات والقضاء بصور عادلة وإنشاء مؤسسات مستقلة ذات دور يعي الأداء المؤسسي كما يجب وحكم رشيد وحلحلة قضايا متكلّسة كقضية صعدة والقضية الجنوبية وصياغة دستور بمشمولات همها تقديس القانون واحترامه ولذا بات على الجميع من أعلى السلطة إلى قعر المجتمع المضي للدفع في اتجاهات تنفيذها والنضال المستميت لبدء العمل بوقائع التنفيذ خطوة خطوة وتلك هي المسؤولية الجمعية للأحزاب و المنظمات والجماعات والأفراد والتي لا تستثني أحداً من الناس بمختلف فئاتهم وتوجهاتهم واتجاهاتهم الفكرية وإدراك حجم هذه المسؤولية داخل ذات كل فرد في اليمن. إذ أن التاريخ لا يتهادى ولا يتأتى إلا بالأخلاق المحفّزة على احترام التعهدات المبرمة وهو الواجب الذي تنص عليه الأخلاق والشرائع والأحكام والأعراف المؤمنة بقيم الخير والحرية واستجلاب الكرامة الأمر الذي يضع الجميع تحت مجاهر مختبر سيشكّل الإرادة ويُشّخص عدالة الشعوب لنفسها قبل عدالة حكامها وساستها لها ويبين مدى إنصافها لنفسها قبل توسل إنصاف الحكام وتلك فرضيات السلوك الموجب لنيل الحق المقدس في شريعة الله وتشريعات الإسلام ولا مجال للتقاعس ولا ملاذ لإيقاف الخراب بشتى صنوفه إلا بالالتزام بتطبيق مخرجات الحوار و تنفيذ بنودها وما ورد في إقراراتها لكي نكتشف شيئاً من الحرية داخل ذواتنا.. حرية طاردة للعُقد التاريخية التي قذفتنا في المجهول ولنعمل سوياً في تدشين عهد جديد من الشراكة في الوطن والمصير كلٌّ في موقعه وصفته ومن صميم أسلوب حياته فنحن بذلك ننشد الآمال والأماني فالشعوب العظيمة لا يقهرها عجز لا تستلبها عقبات ولا تقف أمام يافطات المستحيل ومانشتات اليأس وقد آن الأوان لتجف الدماء وينتهي ردح البغضاء والكراهية ولنسهم جميعاً قيادات وطنية ومؤسسات ومنظمات ومجتمعات وأفراد في تنفيذ مخرجات الحوار الوطني فهي السبيل الأوحد للخلاص ولنسعى بإخلاص لتتويج الحكمة اليمانية التي خصنا بها الرسول الأعظم بحدث يجعل التاريخ في حوزتنا. إن التلكؤ والتقاعس عن تنفيذ مخرجات استوعبت التشارك الجمعي أورثت اليمن عبثاً تسبب في حلول هذا الخراب وأدت إلى مزيد من العنف والدمار والتفكك “ويكفي أن الاستعجال الحاصل الآن ومسابقة الزمن للانتهاء من صياغة الدستور بعد أن حمي وطيس المذهبية في الشارع اليمني ألقت بأثرها المخيف حيال إعداد مواد برؤية تترجم قوانين قد تتضمن فجوات في تقنياتها نتيجة تباطؤ في نقل مخرجات الحوار إلى حيز الواقع, فصياغة دستور بوتائر أكثر مراساً وأجد إخلاصاً ستجعل عملية الاستفتاء الشعبية بفيضٍ من الطمأنينة التي لا شك ستملأ قناعة الشعب وتزيل الضبابية عن مصيره ومسيره. ومما لابد من الإشارة إليه هو أن ما بين تودوروف الفرنسي الذي ينتمي إلى حقبة ومجتمع غادر الاحتراب والإلغاء وثقافة السيطرة الفئوية والجهوية فصنع المجد منذ عقود طويلة ليتوطد الوئام وتشيع الحرية بعد دفع أثمان باهظة من البشر و الكائنات والخسائر المادية والمقدرات إثر ضوء ثورة فرنسية نقلت السلطة من إرادة حكام إلى إرادة شعب ورفعت الحرية والعدالة والمساواة في الأوساط الوطنية وبين صلاح محمد الذي ينتمي إلى حقبة ومجتمع يقبع بين براثن الويلات فكرة إنسانية تقوم على تقديس الإرادة واحترام المواثيق والعهود والاتفاقات الملزمة قولاً وفعلاً تنبثق عنها الحياة وشتان بين من زًج في الباستيل وهو يتنفس الحياة والحرية وبين من زُجّ في عُقدِه الذاتية فانتصبت في نفسه قضبان التبعية وإدمان ثقافة القطيع والانعتاق لرغبات السيد والشيخ والزعيم.. فالنموذج الأول نشأ في بيئة صنعت الرصاص والفياجرا ولم تفرط بالعهود والعقود والنموذج الثاني يستهلك الرصاص والفياجرا للإبادة والتناسل لكنه لا يعتبر السلام وأخلاق الاتفاقات لحساب اعتبار العنف واللذة, وأمامه الآن فرصة تاريخية لرد بضاعة الآخر أو استخدامها وفق مقتضيات أخلاقية مدعمة بأحكام الدين واستحكامات الدنيا فيما تتواتى فرصة عظيمة جاد بها الوقت على طبق من ذهب لا يقبل إلا أن نضع فيه إرادة للتطبيق ورغبة مسؤولة للتنفيذ لما خلّصنا منه على الورق وأتمنى على النُخب السياسية والثقافية والاجتماعية في هذا البلد قراءة أعراف ومفاهيم تودوروف وأمثاله من المتنورين من جهة, وتتماهى أدوراها مع الزمن و إيقاعات الأحداث التي أنتجت صلاح محمد وغيره من الطامحين من جهةٍ أخرى. [email protected]