كنّا في أيام زمان على أيام الإنجليز في عدن نمرُّ على شوارع المدينة فنجدها نظيفة، وكنّا نادراً ما نرى مناظر مؤذية حول براميل القمامة، فعمّال النظافة كانوا يؤدّون واجباتهم بأمانة وإخلاص، لم تكن هناك براميل تتناثر منها القمامة، ولم تكن هناك روائح كريهة تؤذي البشر أو البهائم، كان كل عامل نظافة يشعر بمسؤولية تجاه عمله أكثر وإخلاصاً وتفانياً مما نجده اليوم في سلوك عمّال النظافة الذين سيطر عليهم الكسل والتهاون وعدم الإخلاص في تأدية مهامهم. إننا نرى اليوم أكوام القمامة تتكدّس أمام المحلات والمنازل، تلقي بهمّها الثقيل ومنظرها الكئيب على أعصابنا وتسيء إلى أذواقنا وثقافتنا وشخصيتنا أمام الزوّار الأجانب الذين نتمنّى لو نجد وسيلة نمنعهم بها من الخروج من فنادقهم والتجوال في شوارعنا وحوارينا؛ ليس فقط صيانة لأعينهم من الإيذاء والاحتقان وصيانة لأنوفهم من الانتفاخ والزكام ورؤوسهم من الصداع؛ ولكن أيضاً من أجل المحافظة على سمعة بلادنا وثقافتنا أن يظنوا بنا الظنون ويتهموا ديننا وتاريخنا وذوقنا بالتخلّف والانحطاط؛ وذلك بسبب كثرة المناظر المؤذية التي تسيء إلى صحة البيئة وذوق المجتمع الذي يرونه لا يستنكف ولا يتأذّى من ظهور هذه الأكداس القبيحة من النفايات متعدّدة الألوان والأحجام والأضرار، بسبب ما تخفيه تحتها من مسبّبات الأمراض الخطيرة، والضحايا هم الأطفال على وجه الخصوص وسائر أفراد المجتمع. ومع ذلك فياللأسف ماذا نسمع..؟! يقولون إن هناك في بلادنا قيادات حزبية وغير حزبية تقيم خططها وبرامجها ليس على أساس أن تنافس في الخير بل تنافس في صنع الشر، فيأتي تخطيطها في اتجاه تكريس «الوساخة» في المدينة فيكون من ضمن تكتيكاتها ووسائلها المجنونة أن تحرّض عمّال النظافة على أن يتوقفوا عن تأدية واجباتهم من أجل «أن ترم» المدينة فتكون هذه ورقة يلعبون بها في استجداء الأعوان، فهل هذا يليق بالعقلاء في اليمن..؟!. إن الاهتمام بصحّة البيئة هو الجزء الأعظم من الاهتمام بالصحة العامة، لذلك فإننا نجد أن الضالعين في توظيف صحّة البيئة لتحقيق أغراض سياسية في تحريضهم عمّال النظافة على الإضراب والتقاعس عن تأدية واجباتهم ليسوا سوى نماذج بشرية مهزومة من الداخل تفتقر إلى توعية نفسية وصحّية بالإضافة إلى توعية وطنية وإنسانية. كما تحتاج أيضاً إلى ضمير حي يوقظ فيها الشعور بالحياء من الناس والخوف من الله تعالى، فالذين يحرّضون عمّال النظافة على التقاعس وترك القمامة تملأ الطرقات وتُفسد البيئة ليسوا فقط أشرار هذا البلد ولكنهم أيضاً يحملون في أنفسهم كراهية الوطن وبغض الناس بسبب اختلالات نفسية وعقلية ناشئة عن تربية متردّية وجبلة معطّلة فتتسع مساحات الأنانية وتتسع دوائر الغيظ والحنق لديهم بصورة مجنونة غير معقولة لمجرد أن يروا، بل أن يتوهّموا أن يوماً قادماً يكاد يشرق فجره لم يستطيعوا المشاركة في صنعه أو لمجرد أن يتخيّلوا بزوغ فجر قادم يحمل معه بشارات الخير والأمن والسلام لهذا الوطن الذي مازال يئن ويستغيث الله من كثرة ما فيه من أدعياء يشهدون الله على ما في أنفسهم وهم ألد الخصام؛ يقولون شيئاً ويضمروني في أنفسهم شيئاً آخر، يبتسمون لبعضهم البعض أمام الكاميرات ويكيد بعضهم لبعض خلف الستار؛ كلهم يقولون: الوطن.. الوطن.. الوطن قبل كل شيء والله يشهد إنهم لكاذبون، فحب الوطن من الإيمان، وحب الأوطان من حب الله، والذين ينتهكون حرمات الله، فيصير من السهل عليهم انتهاك حرمات الأوطان، والذين ينتهكون حرمات الأوطان فماذا تتوقعون منهم..؟!. هل يهم أمثال هؤلاء أن تتكدّس القمامة وتضر بالصغار والكبار، هل يهم أمثال هؤلاء غير مصالحهم وتحقيق أطماعهم الأنانية، هل يهم أمثال هؤلاء أن تدخل بلادنا في أحلك أيامها من جهل وفقر ومرض بسبب صراعات المصالح التي تتلوّن بألوان قبيحة ومزرية للحزبية والقبلية والمناطقية..؟!. إنهم يشاهدون وطننا الكبير يكاد أن يتمزّق ويتفكّك فلا يحرّك ذلك شعرة واحدة في رؤوسهم أو جلودهم، ومازال البلهاء منهم يعتمدون الحسبة الخاطئة في أن تفكيك اليمن سيعود عليهم بالفائدة الكبيرة والخير العميم..!!. يالها من سذاجة وياله من غباء وياله من سوء تدبير، فأي سند يدعم هذه الفكرة الطائشة..؟! ليس هناك من سند لا من عقل ولا من منطق ولا من حكمة؛ كل ما في الأمر أن هناك انفعالات سوداوية تجيش في أعماق النفس لبعض الزعماء الذين تعرّضوا للإقصاء فلم يستطيعوا استعادة رباط جأشهم ولملمة شتات أنفسهم من شدّة شعورهم بالقهر، فهل يكفي قهر رجل واحد في وطن كبير أو حتى قهر ألف شخص أن يفكّك وطناً بحاله..؟!. فأيهما أفضل؛ أن تتضافر جهود الجميع في إزالة أسباب القهر ويبقى الوطن سليماً كاملاً معافى، أم تتدنّى العقول إلى أدنى مستوياتها، فتتضافر عوامل الحقد والكراهية والانتقام لكي تهدم، وتهدم ماذا..؟! ليس منزلاً ولا حارة أو حتى مدينة، بل تهدم وطنا بحاله، بل تهدم تاريخاً وأمة ووطناً..!!.