في الوقت الذي نفتقد فيه حتى مجرد الإحساس بالحياة، ولو للحظة عابرة، مجرد الإحساس بالأمان وبالرغبة في الحياة والاستمرار والبقاء، في الوقت الذي تشوّهت فيه الملامح وتداخلت فيه الصور، واختلطت فيه الألوان، حتى ضاع الأبيض، وضاعت تعابير الحروف، وتبادلت الأدوار والمكان ليصبح الغني فقيراً والقزم عملاقاً، بين كل هذه الدوائر والحلقات المُفرغة والواقع المرّ الذي لم يعد يحلّيه شيء حتى العسل، يرسل لنا الله علامات، ويقدّم بين أيدينا ملاحظات تثبت لنا أنه مازال هناك ما يستحق البقاء، ومازال وسيبقى شيء من الفرح والأمل بأننا مازلنا نحن، وسنبقى نحن، بالرغم من كل الوجع و التشظّي والألم والفرقة والحزن والقهر والظلم، وما يحصل في خليجي 22 يثبت ما سبق ذكره. فموقف شاب مغترب، صديقته وسنده الوحيد في الغربة هي ماكينة خياطة، لينفق وقته وربما ما ادخره فيما ما مضى من سنيّ اغترابه، ليخيط 3000 علم لبلاده اليمن، البلاد التي ربما غادرها ليُطعم أُسرته وأُسراً أخرى من عرقه وصبره وكفاحه، وتحمّل وجع الغربة ووحشة الوحدة، ليوزّعها مجاناً، لكل من سيذهب ليشجع المنتخب اليمني، أولئك الشباب الذين يُقاتلون ليرفعوا علم البلاد التي لم تنصفهم يوماً، لاسيما في الوقت الحالي، الذي بات الموت والقتل والغدر، لا يتعدّى لحظات لملثّم فوق موتور، ليُنهي عقلاً وعمراً لثروة فكرية وعلمية ودينية للبلاد بكل بساطة وبرود، ومن لا يعلم فليعلم ما الذي يعانيه هؤلاء اللاعبون في اليمن، وفي الوزارة وزارة الشباب والرياضة. والعجيب أنه بعد المباراة يتذكّر أرباب الأعمال والأغنياء والمشاهير اليمنيون أن هناك منتخباً يرفع اسم هذا الوطن في الوقت الذي يعلم فيه بسّام مهيوب أن علم هذا البلد سيبقى وسيرتفع، وأنه لن يُنظر إليه باستهزاء بكل عنجهية وغرور، وليتبرّع بعد المباراة المسئولون والمعروفون لهؤلاء اللاعبين الذين سافروا وهم يحملون في عيونهم دموعاً متحجرة ودماء تلتهب وجعاً وحسرة على وطن مشظّى، وفساداً ضيّعهم دهراً، وهم يبحثون عن مدرّب وعن حقوق وعن تغذية وعن تطوير وعن دورات وعن لغة وعن إمكانيات وعن كل شيء. ليأتي وليد الجيلاني ويعلّم العالم بابتسامته وإبداعه معنى الصبر و الاجتهاد وحبّ الوطن، وثمة دمعة صامتة في عينيه، تأبى إلا أن تتحوّل لابتسامة، لأجل رفع علم وطنه الذي غادره مغترباً، ليعيش مع بناته الثلاث، وغيره من المبدعين اليمنيين الذين يثبتون للفاشلين والفاسدين داخل اليمن قبل خارجها أنهم شعب لا يُهزم ولن يُهزم، مهما فعلوا، من اغتيالات ونهب وظلم وسلب وضياع سيبقى لنا مكان نصل إليه حتى لو حفرنا الصخر، وسيرتفع علمنا مادام بسام مهيوب وأمثاله يفتخرون به حتى لو كانوا بعيدين عن وطنهم وأهليهم.