استوحيت هذا العنوان من مقولة شهيرة للأديب العربي اللبناني الكبير مارون عبود أوردها في كتابه يقول فيها: ((الويل للناقد في أمة لم يألف أدباؤها إلا قرابين المدح ونذور الثناء، يطرحها المؤمنون على أقدام تلك الآلهة، ثم حسبهم الرضا والشفاعة.. والذي لفّه ضبابُ الندِّ والبخور بإزارٍ حَجبَه عن الأبصار، حتى تنكّرت سحنته وأصبحَ شبحاً مقدساً، يؤذيه النقد ويذيبه التحليل.. وكيف لا؟ وما صار عند نفسه كتابوت، مَن لمسه صًعق؟)).. [1]. واستطرد في مفتتح كتابه النقد الأدبي شارحاً الواقع الذي صاره الأديب العربي إزاء مسألة النقد حيث قال: إذا كتب أحدهم مقالاً لم يرق، فالويل لك إذا جهرت بعقيدتك، فديوان تفتيشهم يؤدبك، وإذا أسمعوك قصيدة ولم تكبِّر عند كل بيت، فأنت حسود. وإذا لم تصفّق لكل شطر فأنت لئيم خبيث. أما إذا نقدتَ فأنت كافر بالعباقرة، وتتهاون بنوابغ الأمة [2]. وطبعاً إذا ما أسقطنا ما ذهب مارون عبود إليه على واقع ما يعيشه ويمر به كل من له صلة بالكتابة في هذا البلد المنكوب في كل شيء بما في ذلك انتكابه بكتاب سواء في مجال الصحافة أو في مجال الأدب، الأدب بمختلف أجناسه سنجد أن ما قاله مارون عبود لا ينطبق على واقعنا تماماً، لأن ما عاشه ويعيشه الكتّاب والأدباء في اليمن ما زال بعيداً كل الابتعاد عن التقييم الحقيقي الذي يضع ما يُكتب في صحافتنا أو ما أنتج من الأدب في (الشعر، السرد، المسرح) في أدبنا بمختلف أنواعها في المصاف الطبيعي من الفكر والأدب العربيين أو الإنسانيين. فعلى حد معرفتي لم أشهد منذ بدأت أتقحّم مسالك الكتابة الصحافية والأدبية أية قراءات حقيقية تعيد استقراء الكتابات الفكرية والأدبية تحت ضوء الاستقراءات النقدية. وبعبارة أبسط لا ولم يوجد حراك نقدي لما يكتب. وحال وُجد حراك من هذا القبيل من وقت مبكر ما بقي الباب مفتوحاً لكتّاب النطيحة والمتردية وما أكل السبع يتسابقون على اعتلاء صفحات الجرائد والمجلات. إن من جدوى النقد الفكري والأدبي هو أنه يطرد الفاسد أو الذي لم يستو وعيه الفكري أو الأدبي، ولا يُبقي إلا الصالح من الكتّاب الذين استوت وانتضجت قدراتهم الفكرية والأدبية. إننا اليوم في مسيس الحاجة لوجود حركة نقدية مهمتها مواجهة كل ما يُكتب في صحفنا من كتابات صحافية وأدبية، والرد عليها بتحليلها وفق المعايير المهنية والنقدية وإلا فسيبقى الباب مشرعاً أمام أقلام الفتنة ودعاة الحرب. وعلينا نحن معشر الكتّاب والأدباء أن نتخلّص من داء الإطراء لبعضنا البعض من ناحية أولى، ومن ناحية تالية التوقف عن مدح وإطراء من يقتحمون دروب الكتابة ومجاهيلها ولمّا تتوفر فيهم بعد شروطها وأخلاقها أو تتهيأ قدراتهم الفكرية عليها. ولا أخفي هنا أنه من بين إجمالي الجدوايات الجمة التي جنيتها من قطوف الكتابات الصحافية والأدبية جدوتين: الجدوى الأولى: ألا توهم من يتطلّع إلى أن يكون كاتباً صحافياً أو أديباً أنه قد تجاوز ما يفترض أن يتعلمه أو يكون عليه نصه. الجدوى الثانية: أن تبين له ما في نصه من عناصر إما أنها أخرجته عن أن يكون نصاً صحفياً أو أدبياً ناجحاً أو العكس رشحته لأن يقترب من دوائر النصوص الناجحة. في الجدوى الأولى: إن سلكت هذا المسلك تحت أي مبرر تكون قد خنت الفكر أو الأدب حينما لم توجهه إلى أخطائه، فأوهمته أن نصه ليس فقط مقبول، بل فوق الرائع. وفي الجدوى الثانية: تكون قد مارست الأمانتين المهنية الصحافية، والأدبية وخدمت الصحافة أو الأدب وصاحب النص حينما وجّهته لما كان يجب أن يأتي عليه نصّه. وأعرف شباناً انتهت بهم دروب التدليس عليهم إما إلى الفشل وترك الكتابة، وبعضهم اصطدم وطاله الإحباط وانتهى به الأمر هائماً على وجهه لكأنه بذلك يشبع غريزة من كانوا يعوّلون عليه بأن يكون كاتباً ألمعياً فقُضِي عليه مجنوناً وكأنه ضحية هكذا واقع في حين أن الحقيقة هي أنه وقع ضحية الذين خدعوه أولاً، وضحية نفسه ثانيا..ً [3]. وقليلون الذين تسوق إليهم ملاحظاتك فلا يكتفون بها أو يقفون عند تخومها.. تراهم على أرائك اللغة يشتغلون، في جملهم تلفي تجريب المعاني، وخلف عباراتهم يستوقفك وعي نصوصهم. كلما تقادمت بهم الأيام تتصاعد في أفاويقهم سحب المعارف الشاملة واللغة الحاملة لتلك المعرفة، إذا كتبوا انهمرت أفكارهم كالأمطار الاستوائية غزيرة رؤاهم.. جديدة عباراتهم.. هنيئة عذبة لغتهم.. بيانهم سحر، ومعانيهم حِكم. تقرأ لهم فتستيقن أنهم قد ارتادوا الليالي يُسامرون الجرجاني ويستوضحون منه ما استشكل عليهم فهمه من دلائل الإعجاز، وعند الجاحظ درسوا أسرار البيان والتبيين، وعند المبرد استكملوا ما ينقصهم بدراسة الكامل في الأدب، وفي حلقات ابن قتيبة تخلقوا على أدب الكاتب، وفي مجالس أبي علي القالي تتبعوا نوادر العرب، عن معرفة حِكم اليونان لم يغفلوا، ومن روائع فلاسفة الأنوار ونظريات المعارف عند الشعوب، وأحوالها بأتراحها وأحزانها ارتووا زلال ضوئها. أخلص إلى القول: إنه إذا كان المدح والثناء لكاتب صحافي أو أديب يستحقهما قد يوديا به إلى شفا جرف هار فيهويان به لكونهما لم يأتيا في مقام الاستحقاق الإبداعي، وإنما لغرضي المدح والثناء لذاتيهما ليس إلا، فكيف بمن مُدح وإطراء على من لايزال في مقتبل الطريق وعلى عتبات تهجّي حروف الكتابة والآداب الأولى؟. الجواب ببساطة: الويل لكاتب أو أديب مبتدئ يألف الإطراء على النقد البنّاء، ثم الويل كل الويل لبلاد كتّابها وأدباؤها لم، ولا يألفون إلا لقرابين المدح ونذور الثناء. 1 - مارون عبود – أنقد أم حسد؟ - الأعمال الكاملة المجلد الرابع – في النقد الأدبي – دار مارون عبود – ص 13. 2 - نفس المرجع ص 15 3 - استدراك: ما قلته في نصي “فقُضِي عليه مجنوناً وكأنه ضحية هكذا واقع في حين أن الحقيقة هي أنه وقع ضحية الذين خدعوه أولاً، وضحية نفسه ثانياً” لا ينفي أو يلغي هذا القول حقيقة أن هنالك مبدعين ذهبوا ضحية الواقع في كثير من المجتمعات، بيد أن هؤلاء غير أولئك الذين ذهبوا ضحية اصطدامهم بحقيقة أنهم فشلوا في أن يكونوا كتابا أو أدباء. [email protected]