المدفعية آلة عسكرية متوحشة يعتقد أن أحد المجانين اخترعها مدفوعا برغبة في الامتلاء بنشوة غريبة تمثل المحصلة لحالة بشرية تجردت تماما من اختلاجات الضمير والمشاعر الإنسانية. لا أتصور النهاية المستحقة لهذه الحالة خارج سياق هذا المشهد: يقف المخترع بين يدي الرب لكي يسأله عن سبب اختراعه لهذه الآلة اللعينة وحين يعجز عن الإجابة يصب على رأسه براميل الجمر حتى يبلغ صراخه مسامع الأطفال والنساء الذين تحولوا إلى عظام مسحوقة في الدنيا بفعل قذيفتها المتوحشة والمحشوة بشتى أنواع المتفجرات. لولا المدفعية لكان هذا العالم سعيدا على نحو لا يوصف ولما تحطم حلم البشرية لعشرات المرات في أن تعيش حياة سعيدة، أما في اليمن فان المدفعية قد خلقت استياء عارماً سيجعل من الناس يعملون على تربية أظافرهم وينتظرون القيامة بشغف لكي يغرزوا هذه الأظافر في جسد صاحب الاختراع المنتشي لفترة زمنية على إيقاع ضجيج آلته دونما اكتراث لما تحدثه من خراب ودمار وسحق لعظام الأبرياء. اليمن الذي صار يقرن كبرياؤه بثقافة التسلح المخيف يقبع الآن في أو حال العالم ومزابله وحين يتموضع في رأس قائمة ما، يكتشف بعد ذلك أن هذه القائمة إنما هي معدة لأكثر المجتمعات انحطاطا وتخلفاً. أنا هنا على شرفة كئيبة أوثق ضحايا المدفعية طيلة عشر سنوات في اليمن، مؤخراً حصدت الآلة المتوحشة عشرات الأرواح في منطقة أرحب الواقعة على الشمال من العاصمة صنعاء، وكانت حممها قد اغتالت آلاف الأرواح في محافظة صعدة خلال ستة حروب لايزال اليمنيون يجتهدون من أجل فك شفراتها حتى اليوم. تصنع المدفعية جحيم اليمن، وتفتتن بها جماعات الموت التي ما انفكت تستعرض شهوة القتل والترويع عبرها، وتصادر أحلام اليمنيين في دولة محترمة تحفظ لهم أرواحهم وتتفهم أحلامهم وطموحاتهم. على ظهر المدفعية الثقيلة نمت شهوة القهر والتسلط لدى العديد من التيارات, وبين ثنايا الحطام الذي أحدثته ولا تزال تحدثه ازدهر ربيع القتلة وأثري الكثير من السماسرة وتجار الحروب. ثقافة التسلح تشكل عمق مأساتنا وخلاصة كوارثنا منذ عشرات السنين، أتحدث عنها كثقافة مستفحلة في الذهنية اليمنية غدت تشكل العائق أمام خروجنا من مدارات الموت والتخلف وتغتال كل أمل في وطن يأخذ لون أحلام الناس وآمالهم. ولعل أي تحرك للإنقاذ لا يؤخذ في الاعتبار هذه الحقيقة سيبوء بالفشل الذريع، فليس ثمة ممكنات للإنقاذ خارج سياق استراتيجية دقيقة تعمل على تفتيت هذه الثقافة وتنظيف الذهنية اليمنية منها، عدا ذلك سنظل ندور في حلقة مفرغة بينما تستمر فوهة المدفعية في الاقتيات من أجساد الناس ويستمر تجار الحروب في الاقتيات من ضجيج ماسورتها التي لا تهدأ. [email protected] رابط المقال على فيس بوك رابط المقال على تويتر